وسائل الإعلام، وتحديداً المرئية منها، تؤثر بشكل مباشر على السلوك والتصرفات وفق واقع الارتباط النفسي والفكري لهذه القناة او تلك، والتفاعل مع المواد المطروحة، وتبقى الأهداف في عقول المخرجين والمنتجين لهذه المواد، وعلى وزن المعنى في بطن الشاعر، إلا ان المعنى هذه المرة في عقل وفكر صانع المادة الإعلامية، ويشكل العنف حداً فاصلاً بين الخير والشر، ويتكئ على دوافع تنمية وتغذية وتتجرع الأمم مرارته، ولم تتباين القناعات ازاء الخير وطرق أساليبه الجميلة المؤثرة، ليزرع الابتسامة في شفاه تبتلي في قوتها، وصحتها وراحتها، وبين الشر المهلك المؤذي الذي يهلك الحرث والنسل، ولا تشبع نهمه الدموع الغزيرة ليستعذب أصوات الآهات والصياح والبكاء، وبين القسوة واللين علامة رئيسة مؤثرة ومعبرة ما فتئت تطرق الأبواب الخيرة، بدورها المميز والفذ ألا وهي الرحمة، غير أن الحيز أو بالأحرى المساحة المتاحة لها في قلب كل إنسان، تتنامى وفقاً لعوامل عدة، فقد تتضاءل وقد تتسع، طبقاً للتأثر، وتحديداً في مرحلة التكوين النفسي والفكري، وهي بلا ريب مرحلة الطفولة. الباحثون دأبوا على درس وتحليل وتشريح العنف من واقع النماذج، التي أعدت سلفاً وتهيأت منذ نعومة الأظفار، كأرض خصبة تزرع فيها ما تزرع وستؤتي أكلها، فإذا رُسِخت نبرة القسوة وغرست بذور العنف منذ الصغر، فمن الصعوبة بمكان احتواء هذا الحصاد إلا بقصه، ولا يلبث أن تنبت له أغصان جديدة وهكذا، لأن الجذور التي تنبت هذا الحصاد لم تقتلع، إذ الأجدر عدم إتاحة الفرصة لهذه الجذور أن تنشأ، إذ إن محور الارتكاز في هذه الإفرازات غير السارة بطبيعة الحال هو الطفل، وهو الأرض الخصبة، وأنت المزارع، فإن شئت زرعت التسامح والرحمة، لتجد ما تتمنى، بل لتؤدي الأمانة الملقاة على عاتقك على أكمل وجه، وإن شئت زرعت البغض والكراهية والحقد والعنف، فهي كذلك، لأن الحصاد سيكون مراً علقماً، لن تلبث أن تكتوي بناره، فضلاً عن الإخلال بالأمانة الملقاة على عاتقك بهذا الصدد، هذا في ما يتعلق بالأب والأم ودورهما حيال التربية الصحيحة والتنشئة السليمة، بيد أن المسؤولية لا تقف عند هذا الحد، إنها تتسع لتشمل عناصر أخرى، قد تؤثر سلباً أو إيجاباً عطفاً على العناية بهذه الأرض، ونوعية البذور التي ستنثر في جوفها، ومن هذه العناصر المؤثرة تتخذ التربية جانباً مهماً إزاء تنوير النشء والمحافظة على الأخلاق الكريمة الفاضلة، من هذا المنطلق أمست الرحمة عنواناً بارزاً للالتزام بالقيم والمبادئ. إن وزارات التربية والتعليم في العالم الإسلامي، بل في العالم أجمع، لم تغفل هذا الجانب الحيوي لما له من تأثير على استقرار المجتمعات، غير أن الجهود ما لم تتضافر لتحقيق هذا الهدف فإن المحصلة بلا ريب تفشي العنف بجميع أشكاله، ومن بين هذه العناصر عنصر مهم هو وسائل الإعلام، وتحديداً المرئية منها، إذ يمتد تأثيرها لتخترق المنازل، وتحاكي الكبير والصغير، والأم والبنت، بل وتدغدغ المشاعر إلى درجة تمكنها من احتواء عقل المتلقي وتفكيره عبر اتقان الالقاء، فضلاً عن حبك الأدوار بطريقة مؤثرة، إلا أن المعضلة تكمن في مصادرة الهدف بسوء استخدام الوسيلة، وهذا بطبيعة الحال لا يلغي حسن النية، بقدر ما تكون الغفلة عن هذا الجانب الخطر، قد أسهمت في ري هذه الأرض البكر، ليكون الحصاد أبطالاً صنعتهم الأوهام، وعشعش في مخيلتهم الخيال، لتصطدم بأرض الواقع ويكتوي المجتمع بهذه الارهاصات، فالأب اجتهد لتسقط الشاشات الملونة منها والعادية، هذا الاجتهاد، بفيلم كرتوني لا يعدو عن كونه امتداداً لنبرة العنف والتسلط، شأنه شأن بعض الأفلام التي لا تخلو من مقاطع جز الرقاب، والترويح عن النفس أمر لا مشاحة فيه والانسجام مع الخيال ذاته، حينما يجسد بصيغة لافتة مؤثرة لا غبار عليه، ولكن ماذا عن المحتوى والهدف، وماذا عن الرحمة المبتعدة أو المبعدة وماذا عن الأفكار الخلاقة المبدعة، التي تشحذ الذهن لبلوغ آفاق من الود والألفة والتراحم. المعايير في السابق تختلف عنها في الحاضر، والتقنية الحديثة ألغت هذه المفاهيم، فرباطة الجأش تعني الصبر على الشدائد والشجاعة في الذَب عن المعتقد والوطن والنفس والأعراض، والإقدام على عمل الخير بشتى الوسائل المتاحة، هذا ما نستقيه من خلال القنوات التعليمية، التي تضع التربية في المقام الأول كهدف سامٍ نبيل. أقولها وبكل أسف بأن وسائل الإعلام، خصوصاً المرئية منها، لا زالت غارقة في أتون الماضي، ولا زالت تحاكي المتلقي من هذا المنطلق ووفقاً لمعايير لم تعد تتناسب ومعطيات القرن ال «21»، وإذا كان الجميع متفقين على نبذ العنف وإفرازاته، فمن باب أولى مواكبة وسائل الإعلام، هذا التوجه النبيل وغربلة المواد التي تطرح بين الفينة والأخرى وإعادة النظر في السياسات المتبعة بهذا الشأن، لم يعد الأمر مقصوراً على التشويق والإثارة، بل يذهب إلى أبعد من ذلك حين يستقر المشهد في مخيلة الطفل ولو استطعت أن تستقرئ أفكاره، وتحلل شخصيته، فإنك ستصاب بالدهشة نظراً لنشوء الازدواجية، إذ إنه يتعلم في المدرسة شيئاً ويوافقه الوالدان على ذلك، ليخرج السيف البلاستيك من غمده ويجربه على اخوانه الصغار في ملحمة بائسة، نسجت في أذهانهم أفلام الكرتون خيوطاً لا تلبث أن تستجدي البؤس ليكون الشقاء في انتظار الوالدين والمجتمع. انطلاقاً في هذا الاتجاه فإنه حري بمنظمات حقوق الإنسان وكل الجمعيات الخيرية التي تُعنى بشؤون الطفل وحفظ حقوقه بأن يتداركوا ما يمكن تداركه لتشكل منعطفاً حضارياً خلاقاً يدعو إلى السلم والسلام والحب والوئام، ولا ننسَ بأن هؤلاء الصغار أمانة في أعناقنا وكذلك القائمون على هذه الوسائل بأن تزرع في عقول وقلوب الأطفال ما يطيب حصاده من واقع الالتزام الأدبي، فهل نحصد السلام والود والوئام؟ الكرة في ملعب وسائل الإعلام ولا أخالها ستخطئ الهدف وهي البارعة في صقل الأفكار المبدعة الخلاقة. [email protected]