استعرض مسلحو تنظيم «داعش»، الأسبوع الماضي، في شوارع الفلوجة من دون مسلحين أجانب، في حين كان الجيش العراقي وفصائل «الحشد الشعبي» يحاصرون المدينة، ويحاول اقتحام مناطق الشمال الغربي، أهم معاقل التنظيم غرب العراق. قد تدخل المعارك المنتظرة في المدينة لتحريرها واقعاً فعلياً، بعد أن اكتسبت قبل انطلاقها الأهمية العسكرية والإعلامية، نظراً إلى رمزيتها لدى سنّة العراق وشيعته على حد سواء، ولكونها المدينة الأولى التي سقطت في يد التنظيم. لكن، لن تمر المعركة في سياق عمليات أمن تقليدية، فالقوات المحررة معبأة لمهاجمة مدينة ينظر إليها كمركز التطرف في البلاد، في وقت يضج الإعلام المحلي بصياغات عن «مدينة إرهابية بلا مدنيين عزل»، فيما المؤشرات إلى الأرض تؤكد أنه لا مفر من انتظار «أرض محروقة» تكلف الكثير، قد يكون من بينها الأمل في «سلام طويل الآمد». وعاد قاسم سليماني، في هذا المشهد، إلى اختيار توقيت ما قبل «ساعة الصفر» ليظهر في صورة جديدة مع قادة «الحشد الشعبي» على مشارف المدينة، ليعود الجدل «المكرر» عن الدور الإيراني، ومعه يُستنهض السنة المناوئون لحكومة بغداد، حالة الاستقطاب. خريطة العمليات تقع الفلوجة على مسافة 60 كيلومتراً شمال غربي العاصمة بغداد، وتسكن فيها قبائل عربية سنّية، من أبرزها «البوعيسى والبوعلوان والمحامدة والفلاحات والحلابسة والبونمر والبوفهد والجميلة والدرة، فضلاً عن العزة والجنابيين وزوبع، وصار عرفاً إطلاق اسم «مدينة المساجد» عليها لأنها تضم نحو 550 مسجداً. لن تكون المعركة المرتقبة هي الأولى التي تهدد المدينة بمصير «الأرض المحروقة»، فقد تعرضت لأضرار في بنيتها التحتية خلال معركة الفلوجة الثانية، واستناداً إلى تقارير القوات الأميركية فإن أكثر من نصف البيوت في الفلوجة، والتي يقدر عددها ب39,000 منزل من أصل 50,000 منزل تعرضت لأضرار كبيرة. ووفق تقارير صحافية، فإن نحو 9000 منزل دمر تماماً، في حين قامت القوات الأميركية بدفع نحو 2,500 طلب تعويض عن الأضرار. في بداية عام 2014 سيطر عليها تنظيم «داعش» بالكامل، وفي الوقت الحالي فإن منطقة كرمة الفلوجة تشهد تراوحاً في السيطرة بين القوات العراقية وعشائر الكرمة، ومنها أجزاء من قبائل «الصبيحات» و «اللهيب» و «الجميلات» من جهة، وتنظيم «داعش» من جهة أخرى. وهذا ما يبرر اختيار الجيش والحشد مناطق الشمال نقاطاً لانطلاق عمليات الهجوم قبل معارك التحرير، فإلى جانب بلدة «الكرمة»، فهي تسيطر على أجزاء من منطقة «الهياكل». يقول قادة من «الحشد الشعبي»، أنهم يحاصرون مدينة الفلوجة من جميع الجهات، ويبدو هذا صحيحاً إلا في مناطق الجنوب، حيث يفشل الجيش والحشد في التموضع هناك، أو احتلال نقطة لعمليات هجوم مفترضة، وصار «معتاداً» في أحياء «زوبع» و «الرفوش» وغيرها في جنوب الفلوجة أن يُكبد تنظيم «داعش» المحررين خسائر كبيرة. لكن الحشد على ما يبدو نجح في قطع طرق الإمدادات في غالبية الجهات المحيطة بالفلوجة، وقد اختار أن يكثف هجماته خلال الأيام القليلة الماضية من جهة الشمال، نظراً إلى سيطرته على مناطق «ذراع دجلة»، وناظم الثرثار. في هذه الخريطة يحاول تنظيم «داعش» فتح منافذ للتحرك في اتجاه عمق المحافظة من الجهة الغربية لمدينة الفلوجة، لا سيما أنه قام بتفجير جسر «البوشجل» الذي يربط المدينة بالصقلاوية. وعلى رغم ذلك، فإن ضباطاً في الجيش العراقي، ومسؤولين في «الحشد الشعبي»، يقولون أن وحداتهم قطعت جميع إمدادات التنظيم بين الفلوجة والصقلاوية، وإن «المرحلة القادمة ستكون تحرير ناحية الصقلاوية بالكامل وتضييق الخناق على داعش في الفلوجة». ويقول هشام الهاشمي، وهو خبير في الجماعات المسلحة العراقية، أن «تحرير الفلوجة من تنظيم داعش، سيجبره على التخلي عن مواقعه البعيدة من المركز في جزيرة الثرثار والمناطق المحصورة بين بيجي وحديثة وسيترك الجهة الأخرى من الكرمة والانكفاء إلى مناطق القائم والبادية والرطبة». يجري الحديث، عن حصار الجيش والحشد ل «داعش» في الفلوجة، لكن مواقع وجود الجانبين في أطراف المدينة، وفق خريطة توزيع القوى المتقابلة تشير إلى أن «داعش» يمتلك جبهات مفتوحة على مناطق صحراوية شاسعة تسهل عليه الهروب والتحرك، ما يعني أن فرضية الحصار قد تواجه واقعاً جغرافيا مختلفاً، ما يجعل مسلحي «داعش» يملكون فرصاً للمناورة والهروب. خسائر بشرية محتملة تقول تقديرات مختلفة، من بينها أرقام لمصادر في الحكومة المحلية لمحافظة الأنبار، أن السكان داخل مدينة الفلوجة اليوم يبلغون نحو 30 ألف شخص، بينما فضّلت بقيتهم النزوح إلى خارجها. غير أن مصادر عسكرية عراقية، قالت أن قوات الجيش فتحت بعض الممرات والمعابر بغية إخراج العائلات التي تروم الخروج من مناطق الفلوجة والصقلاوية، إلى بلدة العامرية وقضاء الخالدية لاشتداد المعارك عبر منطقة الفلاحات غرب الفلوجة، فضلاً عن فتح معبر وحيد في منطقة الحلابسة. زعماء سنّة يبدون قلقهم من طبيعة المعارك، ويقول سلمان الجميلي، وهو وزير التخطيط، أن «سياسة الأرض المحروقة من خلال استعمال القصف المدفعي والجوي التي يتم اتباعها الآن في مدينتي الفلوجة والصقلاوية، والتي تذهب ضحيتها أعداد كبيرة من الأبرياء، لا سيما النساء والأطفال، لا تخدم تجسير العلاقة بين الحكومة والشعب». فيما يقول رئيس لجنة دعم الحشد الشعبي في مجلس محافظة بغداد معين الكاظمي: «لسنا على عجلة من أمرنا لتحرير الفلوجة، وحصارنا لداعش قد يطول كثيراً، في حين يجري العمل الآن على منح المزيد من الوقت لخروج المدنيين والحفاظ على أرواحهم». وثمة خطر ينتظر السكان الذين يخرجون من المدينة، وقد يكون مصيرهم الاعتقال، وتقول مصادر من المدينة أن التنظيم يقوم بسحب الوثائق الشخصية للسكان الفارين، ليقوم الجيش باعتقالهم. ويقول صباح كرحوت، رئيس مجلس محافظة الأنبار، أن تنظيم «داعش» منع خروج المدنيين. ويعتقد كرحوت، أن الهدف من ذلك هو استغلال المدنيين كدروع بشرية. قوى الفلوجة قبل المعارك عملياً، قام تنظيم «داعش» بتصفية أو إبعاد خصومه من الفصائل السنّية داخل الفلوجة، والتي كانت بغداد تعدها خصومها أيضاً، بل صنفتها في كثير من المناسبات، قوى الإرهاب. وتفيد معلومات ل «الحياة» بأن مسلحي «داعش»، هم الآن القوة الوحيدة على الأرض، بعد أن صفت غالبية عناصر الفصائل السنّية التي تمتلك حضوراً قوياً في الفلوجة، والتي ذاع صيتها منذ أيام «مقاومة الاحتلال الأميركي». من بين أبرز هذه الفصائل، «حماس العراق»، و «جيش المجاهدين»، و «الجيش الإسلامي»، و «ثورة العشرين». وفي الحقيقة، فإن عناصر كل فصيل لا يتجاوزون المئات، وقد تعرضوا سابقاً لضربات من الجيش أو عناصر الصحوة، وهم الآن يتوزعون بين نازحين مع حركة الهروب الواسعة من المدينة، أو أنهم أعلنوا البيعة ل «داعش». تقول مصادر من داخل المدينة، أن الزعماء السياسيين الذين كانوا يشرفون أو يقدمون الدعم لتلك الفصائل تخلوا عنها، وانحصر دورهم الآن في أنشطة «دعائية» تتعلق بمساعدة النازحين. الصورة في الفلوجة تشير إلى أن «داعش» هو اللاعب الوحيد في المدينة، وكان آخر الخصوم الذين قام بتصفيتهم هو «المجلس العسكري» الذي يضم خليطاً من شخصيات قبلية وبعثيين سابقين. وقام تنظيم «داعش» بقتل أو سجن عدد من قيادات المجلس، فيما اضطر آخرون لمغادرة المدينة. ويقول هشام الهاشمي، أن «الخبر السيئ لداعش أن المجلس العسكري سيعلن انسحابه من الفلوجة، وعلى لسان العدناني، كما حدث في العلم والدور والبوعجيل، بخاصة بعد فشله في محاولة فتح ثغرة في (تل الطاسة) وفي اقتحام منطقة حديثة». لكن هذا لا يمنع أبداً عودة الصراع السنّي - السنّي في المدينة، وكذلك عودة الفصائل من جديد بعد التحرير. ومن الواضح أن تلك القوى لا تملك قوة على الأرض، لكنها الآن تقف في موضع المتفرج وتنتظر نهاية المواجهة بين الحشد والجيش من جهة، و «داعش» من جهة أخرى. الحكومة المحلية في الفلوجة، والمسماة «المجلس المحلي»، انتقلت إلى بغداد بسبب الظروف الأمنية، ويقول مصدر في مكتب محافظ الأنبار، في تصريح إلى «الحياة»، أن «المجلس سيعود إلى تسيير الأمور بعد انتهاء المعارك». لكن ثمة أصواتاً تطالب بانتخابات مبكرة في المحافظة لوجود رفض من بعض القبائل للمجلس المحلي في الفلوجة، وبقية مدن المحافظة. فرضية «تكريت» للفلوجة بعد تحرير مدينة تكريت، واجهت المدينة القريبة من سامراء شكلاً مختلفاً من الصراع يقوم على أساس تصفية الثارات بين القبائل العربية السنّية في المدينة التي تحدّر منها صدام حسين. وبعد مرور أكثر من شهرين ونصف الشهر على تحرير تكريت، فإن المدينة تشهد عمليات غزو وحرق لمناطق قبلية، حيث تقوم عشائر متضررة من تنظيم «داعش» بالثأر لنفسها من قبائل كانت متحالفة مع التنظيم. وتقول مصادر في المدينة، أنه «لا يمر يوم من دون أن يجري حرق أو تفجير منازل لعائلات تنتمي إلى قبائل ساندت داعش». قد يكون المشهد في الفلوجة مماثلاً، لكنه قابل للتفجر أكثر وفق توازن القوى العشائرية هناك، وصار من الواضح أن كل قبيلة سنّية في الفلوجة منقسمة على نفسها بين مناهضين ل «داعش»، وموالين له، فضلاً عن قبائل لم تسلم مناطقها إلى التنظيم، وتتعرض مراراً لعمليات شرسة من المسلحين. مرت الأشهر الماضية على مدينة الفلوجة، وقد تراكمت فيها مجتمعياً لائحة طويلة من خسائر الصراع الداخلي، وليس من المتوقع أن تجري تسويتها في المدى القريب، إلا عبر تكرار فرضية تكريت في إعادة تشكيل توازن القوى، ما يعني أن الحديث عن عودة الأوضاع إلى سابق عهدها محل شك كبير. مكاسب «الحشد الشعبي» ينقسم سكان الفلوجة، بين مؤيدين لتحرير المدينة على يد أي قوة مهما كانت، لكنهم لا يريدون الحشد، لأنهم يخشون مصير مناطق «البوعجيل» ومناطق في تكريت، كما يقولون، وقسم ثانٍ يرفض دخول أي قوة محررة ويرغب في بقاء تنظيم «داعش»، وهو يستند في ذلك إلى عصبية طائفية ودينية. إنها صورة معقدة عن مستقبل المدينة، لا سيما أن فرص التخلص من «صداع» الفلوجة تتضاءل مع الخيارات التي يلجأ إليها اللاعبون على الأرض من أجل حسم الوضع. «الحشد الشعبي»، وبغض النظر عن مستقبل الفلوجة، فإنه إذا تمكن من تحرير المدينة سيحقق مكاسب ذات بعد رمزي حاد في استقطابه، وسيكون راسخاً أكثر بصفته القوة «الوحيدة» التي يمكنها التصدي لتنظيم «داعش»، وما سيترتب على ذلك من تغيرات في هوية المؤسسة العسكرية العراقية.