كان رمضان مصدر إلهام للكتاب المسلمين من شتى المشارب والمذاهب والاتجاهات، ما انعكس على رحلة أبي سالم العياشي، من جبل عياش في المغرب الأقصى إلى مكة للحج وتلقي العلم. وقبل أن نسترسل في التعرف إلى طريقة تصوير العياشي لرمضان في مكةالمكرمة يجدر بنا التعريف بالرجل. ولد الفقيه المالكي والرحالة المغربي أبو سالم عبدالله بن محمد العياشي عام 1037ه - 1627م، أي أنه عاش في وقت خضع فيه جل شمال أفريقيا ومصر والحجاز لسلطنة آل عثمان في أوج قوتها. يتحدّر العياشي من قبيلة آيت الأمازيغية الأصيلة، واكتسب لقب العياشي من جبل عياش الذي كانت تسكنه قبيلته. نشأ في زاوية أبيه الذي كان من الفقهاء وأكمل تعليمه في مدينتي درعة وفاس المغربيتين، وكان لإخلاصه في العطاء العلمي لوجه الله سبباً لشهرة الزاوية العياشية حتى صارت قبلة لطلاب العلم وأهل الحوائج. ورغبة في الحج بجانب إتمام علومه والتتلمذ على مشاهير علماء عصره، في شتى المدن من المغرب حتى مكة، فقد خرج للحج مرتين الأولى حينما كان في الثانية والعشرين من عمره وذلك عام 1059ه وقام برحلة ثانية في السابعة والثلاثين من عمره المبارك وذلك عام 1074 ه على إثرها استقر في المدينة النبوية لفترة مجاوراً، كما مر في القدس ووصفها. وحينما استقر المقام بالعياشي في زاوية العياشية كتب رحلته التي قال عنها: «وقصدي إن شاء الله من كتابة هذه الرحلة أن تكون ديوان علم لا كتاب سمر وفكاهة». ومن ثم جاءت الرحلة العياشية أكثر من رحلة فقد حوت كثيراً من الفوائد، منها الوصف الدقيق لكثير من الأعراف والمعتقدات والطقوس الشعبية التي اختلطت بتعاليم الدين، وهو ما اجتهد العياشي في توضيحه. ويلاحظ أن قضية استطلاع الهلال في مكة لم تلفت نظر العياشي كثيراً، على رغم أنه أولاها في القاهرة اهتماماً ملحوظاً. فحينما كان في القاهرة عام 1059ه تحدث عن الاستعداد لرمضان، وما سبق استطلاع الهلال من مشكلة كبيرة مبعثها تكهن المنجمين بأن الهلال يرى ليلة الثلاثين من شعبان، ومن ثم يصير الشهر تسعاً وعشرين يوماً، ويبدو أن والي القاهرة كان له اعتقاد في المنجمين ومن ثم استدعى قاضي الشافعية المنوط به تحري الهلال، وطلب منه إصدار منشور بذلك، غير أن القاضي رفض الأمر وهو ما مدحه العياشي حين علق قائلاً: «جزاه الله خيراً»، لأن هلال شهر الصوم لا يتكهن به لكن يرى رأي العين، وهو ما رآه القاضي الشافعي ومن ثم رفض الإعلان، وعليه صعد إلى منارة جامع السلطان قايتباي قبيل مغرب ليلة الثلاثين ومعه الشهود العدول حتى وصلوا إلى المئذنة، وكان الجو صحواً في هذه الليلة، فانتظروا حتى أرخى الليل سدوله، ولم يظهر الهلال. وحينذاك أعلنوا للناس عن تمام شهر شعبان ثلاثين يوماً، وذلك بإيقاد المصابيح فوق المئذنة وكانت توقد طوال شهر شعبان، وهنا علم الشعب بالأمر وظهر لهم كذب حكم المنجمين. ولعل عدم اهتمامه بالأمر نفسه في مكة يرجع إلى انشغاله بالجلوس إلى أحد الفقهاء كعادته في كل قطر فيه حلَّ، ناهيك عن عدم حدوث ما يثير الانتباه في استطلاع الهلال في مكة مثلما حدث في القاهرة، ومن ثم لم يهتم بتفاصيل ربما من وجهة نظره لن تفيد قارئ رحلته. وكما لاحظ الرحالة فإن بدء رمضان كان يُعلن عنه في مكة بوسائل عدة منها ضرب الطبول الكبار أو الدبادب كما لاحظ ابن جبير عام 579ه أو ضرب المدافع من قلعة أجياد كما أشار المستشرق الهولندي هورخورنيه عام 1885م. ولاحظ العياشي أن من أهم الملامح الرمضانية في مكة نشاط حركة الأسواق ليلاً، في ظل حرارة مكة الشديدة في النهار بخاصة في الصيف ناهيك عما يعتري الناس من ضعف بسبب الصيام، ومن ثم تتركز جل الأنشطة الحياتية في الليل. وهو ما يتفق معه فيه هورخورنيه، المستشرق الهولندي الذي أوضح أن جل مرتادي المحال التجارية في رمضان هم من الزوار، لأن أهل مكة قبل رمضان يشترون كل احتياجاتهم، ولا تنشط الأسواق بالكامل ويخرج إليها أهل مكة إلا قبيل العيد لشراء ملابس العيد والاستعداد له. وأوضح العياشي أن في رمضان يجد الناس في العبادة فلا ترى شخصاً في المسجد الحرام ليلاً إلا طائفاً أو مصلياً أو قارئاً للقرآن، ويتفق مع العياشي ابن جبير في نشاط زوار الحرم في هذا الموضوع حتى قال: «وكاد لا يبقى في المسجد زاوية ولا ناحية إلا فيها قارئ يصلي بجماعة خلفه فيرتج المسجد لأصوات القراءة من كل ناحية فتعاين الأبصار وتشاهد الأسماع من ذلك مرأى ومستمعاً تنخلع له النفوس». كما لحظ العياشي نشاطاً لمجاورين والزوار في أداء العمرة ليلاً، وكان العياشي يفضل أن يعتمر كل ليلة اثنين وجمعة، حتى منتصف الشهر حينذاك صار يعتمر كل يوم حتى ليلة الحادي والعشرين التي دخل فيها للاعتكاف. وقد جعل العياشي من العمر الكثيرة التي أداها نوعاً من صلة الرحم فوهب منها لوالديه ومشايخه وأحبابه. وأشار إلى أنه في كثرة أداء العمرة مخالفة لمذهبه المالكي الذي يرى أن كل عام يؤدي الفرد عمرة واحدة، وبرر العياشي ذلك بأنه زائر وليس مقيماً، ومن ثم أخذ برأي بعض من فقهاء المالكية الذين حبذوا الاقتداء بالشافعية في بعض الأعمال منها تعدد العمرة في العام وعلق على ذلك قائلاً: «لأنه ولو لم يكن لازماً في مذهبنا فلا يدفع كونه قربة». ورصد هورخورنيه الموضوع نفسه لكنه كان أكثر تفصيلاً من العياشي حيث أضاف أن بعض المعتمرين يذهبون للتنعيم للإحرام على الأقدام، غير أن الغالبية تستأجر الدواب لهذه الغاية، وإذا كان الراغب في أداء العمرة من الزوار الجاهلين بالطريق فإنه يصطحب دليلاً من جانب مطوفهم يساعدهم في الوصول والإحرام. وأشار هورخورنيه لوعورة الطريق نحو التنعيم وانعدام الطعام والشراب كما أن الدواب كانت تعاني بشدة، واستغل الموضوع كثيراً من الراغبين في الثراء السريع، حيث كانوا يقومون بشراء الدواب بكثرة قبل رمضان لاستغلالها في نقل الركاب من وإلى التنعيم، للإحرام طوال الشهر الكريم ويقومون ببيعها بعد رمضان بأسعار زهيدة. وقربة إلى الله حرص أغنياء مكة على المكوث في المسجد لفترات طويلة في الليل وبين يدي كل منهم مصباح كبير، ويحضر جماعة من قراء القرآن يتناوبون في القراءة في ما بينهم حتى ينقضي معظم الليل، وإذا كان للغني دراية بالقراءة قرأ معهم، وإذا لم يكن يستمع لما يقرأون، وخلال ذلك يقدم لهم مختلف أنواع المشروبات الحلال وفق قدراته كما يطيبهم بأفضل طيب توفر لديه. وهذا أمر انفرد به العياشي فلم يلاحظه ابن جبير ولم يذكره هورخورنيه. وترتب على هذه العادة أن تلألأ المسجد الحرام بالأنوار وكأن المسجد أزهر مصابيح. وموضوع إضاءة المسجد الحرام وتلألؤه بالأنوار لاحظه كثير ممن زار مكة في رمضان ومنهم الرحالة الأندلسي ابن جبير وذلك عام 579 الذي لاحظ تباري التجار من مختلف المذاهب في جلب الشموع الكبار لإضاءة الحرم في رمضان، وحال زيارته كان التجار المالكية أشد الناس اجتهاداً في هذا الأمر حتى قال عن مكان إمام المالكية: «فجأة جهة المالكية تروق حسناً وترتمي الأنظار نوراً» ولحظه أيضاً هورخورنيه الذي أشار إلى أن المسجد الحرام في الليل يكلل بالأنوار، فكل مكان به كثير من القناديل وفي الصحن توضع القناديل على حوامل ارتفاع كل منها 1.50 م. وذكر العياشي أنه إذا حلت ليلة ختم القرآن زاد الناس في الإضاءة والقراءة، فإذا حلت ليلة العيد يقدم كل واحد من الأثرياء لقراءة الكساوى والدراهم وفق سعة كل منهم، ويزيدون في عطاء حسن الصوت، وكان ممكن القارئ الواحد أن يقرأ في أماكن عدة ويحصل من كل مكان على عطاء منفصل. ومما لاحظه العياشي واتفق معه فيه ابن جبير وهورخورنيه وغيرهما، أن لكل مذهب من مذاهب الفقه السنّية الأربعة إماماً ومقاماً للقراءة، تأتم به جماعة كبيرة من أهل مذهبه ويحرصون على ارتفاع صوتهم في الصلاة، وكان أعلى الجماعات صوتاً الحنفية، حيث كانوا عقب كل ركعتين يرتاح المصلون وتقف مجموعة من المنشدين محمدين مهللين مسبحين بأصواتٍ عالية حتى ترتج جنبات المسجد الحرام. وفي ليلة ختم القرآن تزيد مصابيح المسجد ويحضرون شموعاً هائلة ترفع على حوامل خاصة. وعقب الختم يخلع على إمام الحرم خلعة من جانب السلطان بجانب بعض الهبات المادية والعينية. وكان إمام الشافعية أول من يختم القرآن ليلة الحادي والعشرين وكان مكانه مقام إبراهيم يليه، الإمام المالكي يوم 25، ثم الحنفي ليلة السابع والعشرين، والحنبلي ليلة التاسع والعشرين، وخلال العشر الأواخر كان مجاورو الحرم يعتمرون كل ليلة، وجل الناس يخرجون للعمرة ليلة الخامس والعشرين. ومما صادفه العياشي حال وجوده في مكة فتح الكعبة وقد فتحت مرتين في رمضان جمعة الأولى وجمعة الأخيرة، وقد تمكن العياشي في المرتين من الدخول وشعر حال وجوده بالكعبة بسكينة ووقار لم يشعر بهما طيلة حياته.