تشهد الساحة الإسلامية خلال الفترة الأخيرة ظاهرة غريبة لم يعتدها المسلمون من قبل وهي ظاهرة التجارة بالعمرة بمعنى إنابة الغير في أداء العمرة مقابل الحصول على تكاليف هذه العمرة، وهو ما اعتبره العلماء ظاهرة خطيرة تساعد على إيجاد مجموعة من “سماسرة” العبادات هو أمر محرم شرعًا، وسارع العلماء في تقديم رؤيتهم حول من يجوز أداء العمرة عنه، وهل الإنابة في هذا الأمر تكون مشروطة أم على إطلاقها، وأيضًا حكم الإحرام من مكة لأداء عمرة ثانية وثالثة وهل هو جائز شرعًا أم أن الخروج من مكة للميقات هو الأمر الشرعي الذي لا حياد فيه عند الرغبة لأداء عمرة أخرى. “المدينة”رصدت آراءهم حول هذه القضية بجوانبها الثلاثة من خلال السطور التالية.. الإنابة المشروطة يقول د. محمد رأفت عثمان العميد الأسبق لكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية: إن أداء العمرة عن الغير له شروطه فلا يكون إلا عن الأقارب كالأب والأم وما شابه، إلا في الضرورة بمعنى أنه لا يصِح أن يكون أداء العمرة عن حي قادِر، وإنما تكون عن عاجِز عن أدائها، أو عن ميت لم يحج، وقد اختلف الفقهاء في قضية أداء العمرة عن الغير الحي القادر بنفسه على أدائها، حيث ذهب الحنفية إلى أنه يجوز أداء العمرة عن الغير بأمره أي بالنيابة، وذهب المالكية إلى أنه تكره الاستنابة في العمرة وإن وقعت صحت، وقال الشافعية تجوز النيابة في أداء العمرة عن الغير إذا كان ميتًا أو عاجزًا عن أدائها بنفسه؛ فمن مات وفي ذمته عمرة واجبة مستقرة بأن تمكن بعد استطاعته من فعلها ولم يؤدها حتى مات وجب أن تؤدى العمرة عنه من تركته، ولو أداها عنه أجنبي جاز ولو بلا إذن، وتجوز النيابة في أداء عمرة التطوع إذا كان عاجزًا عن أدائها بنفسه كما في النيابة عن الميت، وذهب الحنابلة إلى أنه لا تجوز العمرة عن الحي إلا بإذنه لأنها عبادة تدخلها النيابة فلا تجوز إلا بإذنه، أما الميت فتجوز عنه بغير إذن، وهناك شبه اتفاق بين العلماء على أن أداء العمرة عن الغير تكون عن القريب الميت الأولى فالأولى أو العاجز وغير القادر ولا تؤدى عن الغير بإطلاق، حتى لا يتكاسل الناس عن أداء العبادات، وهذا كله توضحه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ومنها، ما ورد عن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال: “جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت ولم تحج أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها”، وعن أبي رزين العقيلي: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال: حُجَّ عن أبيك واعتمر”، وغير ذلك من الأدلة التي وردت في السنة النبوية، وتؤكد كلها أن أداء العمرة عن الغير تكون في نطاق الأقارب وليس على إطلاقها. ويضيف د.عثمان أن العبث بسُنة العمرة وإنابة الغير في أدائها دون عذر قهري لا يجوز شرعا ومن ثم فلا يصل ثوابها لمن ينيب عن نفسه ولا لمن يقوم بها، لأن ذلك الأمر في حال انتشاره سيساعد الناس على التكاسل عن أداء العمرة والاكتفاء بالإنابة في أدائها وهو أمر مرفوض ما دامت لا تقتضيها ضرورة. مكة ليست ميقاتًا ويقول د. نبيل غنايم رئيس قسم الشريعة الأسبق بكلية دار العلوم جامعة القاهرة إنه يجب على المعتمر الخروج من مكة للميقات عند الرغبة في أداء عمرة ثانية، ولا يجوز الإحرام من مكة في العمرة، فمكة لا تكون ميقاتًا إلا في حج التمتع، حج القران والإفراد لأهل مكة والمجاورين بها سواء انتقل فرضهم إلى فرض أهل مكة أم لا فإنه يجوز لهم الإحرام لحج القران أو الإفراد من مكة ولا يلزمهم الرجوع إلى سائر المواقيت، وإن كان الأولى لغير النساء الخروج إلى بعض المواقيت، والأحوط والأولى الإحرام من مكة القديمة التي كانت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله، وإن كان الأظهر جواز الإحرام من المحلات المستحدثة بها أيضًا إلا ما كان خارجًا من الحرم، ولا يجوز الإحرام قبل الميقات، ولا يكفي المرور عليه محرمًا، بل لا بد من إنشاء الإحرام من نفس الميقات، ويستثنى من ذلك موردان، أن ينذر الإحرام قبل الميقات فإنه يصح ولا يلزمه التجديد في الميقات، ولا المرور عليه، بل يجوز له الذهاب إلى مكة من طريق لا يمر بشيء من المواقيت، ولا فرق في ذلك بين الحج الواجب والمندوب، والعمرة المفردة. ويضيف د.غنايم أن من مرّ على أحد المواقيت التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم للإحرام فإن كان يريد الحج أو العمرة عند مروره به فإنه لا يجوز له أن يتعداه بدون إحرام لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حددها قال: “هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة”، وإن المعتمر إذا مر بالميقات ولم يحرم وأحرم من مكة فإن إحرامه صحيح ولكن عليه الفدية، وهي ذبح شاة توزعها على مساكين الحرم، وإذا عزم المسلم على العمرة وهو في مكة فإنه لا يحرم من مكة وإنما يخرج إلى الحل ويحرم منه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج عائشة إلى التنعيم وأحرمت بالعمرة من التنعيم وهو أدنى الحل، وهناك أماكن خصصتها الشريعة الإسلامية المطهرة للإحرام منها، ويجب أن يكون الإحرام من تلك الأماكن ويسمى كل منها ميقاتًا، وهي تسعة: ذو الحليفة وتقع بالقرب من المدينةالمنورة، وهي ميقات أهل المدينة وكل من أراد الحج أو العمرة من طريق المدينة، والأحوط الإحرام من مسجدها المعروف ب “مسجد الشجرة”، ولا يجوز تأخير الإحرام من ذي الحليفة إلى الجحفة إلا لضرورة من مرض أو ضعف أو غيرهما من الأعذار، ووادي العقيق وهو ميقات أهل العراق ونجد، وكل من مر عليه من غيرهم، وهذا الميقات له أجزاء ثلاثة، “المسلخ” وهو اسم لأوله، و“الغمرة” وهو اسم لوسطه، و“ذات عرق” وهو اسم لآخره، والجحفة وهي ميقات أهل الشام ومصر والمغرب، بل كل من يمر عليها حتى من مر بذي الحليفة ولم يحرم منها لعذر أو بدونه على الأظهر، ويلملم وهو ميقات أهل اليمن، وكل من يمر من ذلك الطريق، ويلملم اسم لجبل، وقرن المنازل، وهو ميقات أهل الطائف، وكل من يمر من ذلك الطريق، ولا يختص الميقات في هذه الأربعة الأخيرة بالمساجد الموجودة فيها، بل كل مكان يصدق عليه أنه من العقيق أو الجحفة أو يلملم أو قرن المنازل يجوز الإحرام منه، وإذا لم يتمكن المكلف من إحراز ذلك فله أن يتخلص بالإحرام نذرًا قبل ذلك كما هو جائز اختيارًا، ومحاذاة أحد المواقيت المتقدمة، فإن من سلك طريقًا لا يمر بشيء من المواقيت السابقة إذا وصل إلى موضع يحاذي أحدها أحرم من ذلك الموضع، والمراد بمحاذي الميقات: المكان الذي إذا استقبل فيه الكعبة المشرفة يكون الميقات على يمينه أو شماله بحيث لو جاوز ذلك المكان يتمايل الميقات إلى ورائه، ويكفي في ذلك الصدق العرفي ولا يعتبر التدقيق العقلي، والمنزل الذي يسكنه المكلف، وهو ميقات من كان منزله دون الميقات إلى مكة، فإنه يجوز له الإحرام من منزله، ولا يلزم عليه الرجوع إلى المواقيت، وأدنى الحلّ كالحديبية والجعرانة والتنعيم وهو ميقات العمرة المفردة لمن أراد الإتيان بها بعد الفراغ من حج القران أو الإفراد، بل لكل عمرة مفردة لمن كان بمكة وأراد الإتيان بها. سماسرة العبادات ومن جانبه يقول د.عبدالمعطي بيومي العميد الأسبق لكلية أصول الدين جامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية إن ما يحدث خلال الفترة الحالية من أداء العمرة عن الغير بغرض التربح جريمة شرعية واجتماعية وقانونية يجب مواجهتها، فالاتجار بالعمرة حرام لأنها نوع من العبادات التوقيفية لا يقوم بها إلا صاحبها أو إذا اقتضت ضرورة قصوى لقيام شخص آخر عنه بأدائها، أما أن تحيل العبادات إلى نوع من التجارة لكسب المال فهذا حرام، ومن المؤسف أننا نشاهد بالفعل خلال الأيام الأخيرة انتشار ظاهرة الإنابة في أداء العمرة مقابل أجر مالي وهي ظاهرة يؤثمها الشرع الحنيف، لأسباب مهمة في مقدمتها أن أداء العمرة لا تقوم بالإنابة إلا في الضرورة وعن الأقارب وهذه الضرورة هي الموت أو عدم القدرة وعجز المسلم عن أداء العمرة بنفسه لأسباب مرضية أو كبر سن، وليس لأسباب دنيوية بحتة، والسبب الآخر أن تحويل سنة العمرة إلا تجارة يتربح منها البعض بعرض أدائها عن الغير نظير مقابل مالي أمر تجرمه الشريعة ويجب أن يحاربه القانون ويمنعه، فهذا الأمر يجب أن يواجه بحسم. ويضيف د. بيومي أن السكوت على ظاهرة الاتجار بالعمرة سيوجد في المجتمع مجموعة من سماسرة العبادات الذين يسعون للتربح منها، ويجب العلم أن من ينيب غيره في أداء العمرة بدون عذر مقابل أجر مالي آثم ولا أجر له فيها هو أو من يقوم بها عنه.