يحاول الشاعر المصري عادل سميح في باكورته الشعرية «عزيزي الكونت دراكولا» (دار ميريت) أن يفرض صوته الشعري الخاص، وسط أصوات متباينة. فمن يقرأ مجموعته الشعرية يجد أنّها تتميّز بفضاءات متعددة. للوهلة الأولى يظنّ القارئ أنه أمام قصيدة حب تنضوي تحت اثني عشر عنواناً، ولكن من يقرأ بتأنٍ يجد أن فضاء الحب يتجاور مع فضاءات أخرى، منها أزمة الذات/ الهوية في مواجهة الاعتيادي واليومي، وإشكالية الموت في مواجهة لغز الحياة، وفضاء المدينة المنسحب كالظل في خبايا السطور الشعرية، والكتابة وجدواها. هو ديوان الإشكاليات المتوالية، كما إشكالية «الكونت دراكولا» نفسه، لذا لم يكن مصادفة أن تكون قصيدة «عزيزي الكونت دراكولا» هي عنوان الديوان، وكذلك هي القصيدة الأطول تقريباً، وهي تمثل النقطة التي نستطيع أن ننطلق منها وأن نعود إليها. يحاول سميح إعادة صوغ أسطورة الكونت دراكولا، فها هو يرى الكونت من نواحٍ أخرى غير التي نعهدها. يراها عبر الخدعة التي صدَّرها طوال الديوان، وهي أنه يتحدث عن الحب فقط، ولكنه يطرح أسفل السطور وبين الكلمات مقاصد أخرى، فنجده يقول منذ بداية تلك القصيدة: «صديقي العجوز»، أي أنّ الذات الشعرية تنتمي إلى اللعنة الأسطورية نفسها التي أصابت هذا المسكين دراكولا. المقصود ليس مجرد التعاطف، بل التعبير عن إدراك حجم معاناة تلك الشخصية الأسطورية: «صديقي العجوز: لتعلمْ أنني أدركُ تماماً/ كم تعانى/ فأنتَ لا تحملُ الصخرةَ صعوداً/ ثم صعوداً». إن هذا الإدراك يتحول إلى توحد وإلى تماهٍ من خلال تماثل الوجع الناجم من سوء الفهم. يقول سميح في قصيدة أخرى: «أصدقائي الذينَ أعرفهم/ منذ مئات السنين/ ويزعمون/ أنهم يعرفونني جيداً/ انتابهم قلقٌ شديدٌ/ لأنني/ غيرتُ عاداتي اليومية». في «عزيزي الكونت دراكولا» تفاصيل تأخذنا إلى لُب التعقيد الحياتي، بلا مبرر واضح سلفاً. وإذا كان كاتب أو مبدع ما بعد حداثي يتميز – كما يقول ليوتار- برفضه القواعد والمرجعيات السابقة عليه، فهكذا كان الشاعر عادل سميح، يكتب نصه ليسبح في فضاء اليومي وفضاء الأحلام الهاربة والحب، وفضاء الموت من دون قيود. فتارة يتشبث بالحياة قائلاً: «سأدَّعي إذن/ أن الحياةَ حلوةٌ/ وتستحقُ أن تُعاشَ/ بفرحٍ»، كما في قصيدته «يكفي أنكِ هناك»، وطوراً يرى كل شيء خدعة ومكراً وكأن الموت هو النجاة الأحق فيقول: «لماذا/ كلَّما سألتُ البحرَ/ عن سرِّ الخواءِ/ تفجرَ الليلُ مياها آسنة/ وهزائم/ تريدُ الثأرَ لنفسِها؟... لماذا/ تسكبني الفراشاتُ/ ظلاًّ شفيفاً/ على الأسطحِ المعتمة؟»، في «أسئلة مُرة». وفي القصيدة نفسها يضعنا الشاعر أمام الماضي وأمام حالات الألم والضياع التي نمر بها يومياً، وكأنه بهذه الأسئلة المرة يشكل مرآة تنعكس فيها النفس البشرية بألمها وبحزنها وبأحلامها التي تتلاشي في الفراغ كورقات تنثرها الرياح. هذه الهزائم المتتالية والتي تعكس الروح الضائعة وسط هذا الكم الهائل من التقدم والتكنولوجيا وكأننا نرى مرة أخرى مرثية العبقري رامبو للحضارة الأوروبية، عبر مرثية الكونت دراكولا في قصيدة «هزائم»: «هذه أولى الهزائم/ تسري في عُروقى/ لا أعرفُ معنى/ لاسمي السري/ كيف إذن/ سأعبرُ المضيق/ إذا فاجأني البحر؟!». الوجود في مقابل الموت، أو الموت الذي يخطف الغرفة، أو الحب الذي يود الهروب من الموت... يسرد الشاعر حالة هذا التعايش ما بين الموت والحياة ببراعة، وكأن الذات الشاعرة تضعنا على الحافة التي تريد للقارئ أن يتكئ عليها من خلال مفردات يومية معيشة كالكرسي والغرفة والعنكبوت والصاحب والأسى. هذا الوجع الذي يفضي إلى القتل، والقتل الذي لم يحسن فعله الآخر، هذا الضياع اليومي، وهذا الجرح الاعتيادي، يعد محوراً أساسياً من محاور الديوان. ويمكن أن نقول إن «عزيزي الكونت دراكولا» هو ديوان الفقد بامتياز، أو ربما ديوان القتل المتعمد للأحلام: «مُكتفياً/ بسكينكِ المغروزةِ في قلبي/ دعكِ/ من الدموعِ الخائبةِ/ التي تترقرقُ في عينيكِ/ فأنا أعلمُ جيدا أنَّها/ ليست إشفاقًا على حَالي». هذا التأرجح على حافة الموت والحياة هو ما أخرج من الكونت دراكولا ومن الذات الشاعرة شخصيتين مختلفتين تتنازعان داخل الجسد الأوحد وكأننا أمام حالات من الاستنساخ للتشوه أو حالات من نسخ مختلفة، قد تكون متشابهة وقد تكون ضدية بالأساس، وذلك اتضح جلياً في قصيدته: «تعبر الشارع باطمئنان»... «نسخةٌ مني تفتح الباب/ وتعدو في الطريق بصبيانيةٍ/ تشاكسُ المارَّة/ بالتقافزِ أمامهم/ وجذبِ ملابسهم بخشونةٍ/ مسببةً حالة من الارتباك والغضب/ ونسخةٌ أخرى تُغلق النافذة بعنفٍ/ في وجه العالم/ نسخةُ مني/ تجلسُ في هدوءٍ بالغ/ تتابعُ الأخبار ببرودٍ/ لا يليقُ بجلال الموت/ بينما نسختي الأخرى/ تتلقَّى الرصاصَ في صمت». ويصحّ القول أخيراً إن «عزيزي الكونت دراكولا» هو ديوان المراوغة ما بين الحب والموت، ما بين الفرح والألم، وهو يبشّر بولادة صوت شعري متميز.