طبيعيٌ أن يواجه الرئيس الأميركي باراك أوباما معارضةً من المصارف الوطنية التي اقترح أن تدفع رسوماً قيمتها 117 بليون دولار على مدى 10 -12 سنة مقبلة، إذا أقر الكونغرس اقتراحه. فالخطوات التي أعلن عنها تعتبر صارمةً في حق القطاع المصرفي، حتى لو أسماها «رسوم المسؤولية عن الأزمة المالية»، فهي تطال المصارف المسؤولة وغير المسؤولة، المصارف التي استفادت من مساعدات الخزانة الأميركية ومجلس الاحتياط الفيديرالي، والتي أعادت أموال تلك المساعدات أم لا، كما تشمل المصارف التي لم تستفد من إعانات الدولة. وعلى رغم إشادة صندوق النقد الدولي بالمبادرة، وتأييد كل من فرنسا وبريطانيا لها، إلا أن الأخيرة ترفض الاقتداء بها، فيما فرضت باريس ضرائب بنسبة 50 في المئة على المكافآت التي تدفعها المصارف إلى العاملين لديها. وقد يطرح قرار الرئيس الأميركي إشكالية على الصعيد العملي، ليس لناحية صوابيته بل لناحية ما يترتب عليه من نتائج سلبية. ففرض الرسوم يُريحُ دافع الضرائب، لأنه ساهم في إنقاذ مؤسسات مال من إفلاساتٍ محتمة ومدمّرة، لكنها في النتيجة كانت لتطال دافعي الضرائب أنفسهم لو سُمِحَ بها، وتهزّ الاقتصاد القومي أكثر بكثير مما أصابه، سواء لناحية الركود أو لناحية تصاعد معدلات البطالة، على رغم أن رزم الحفز الأميركيةِ أنقذت مليوني وظيفةٍ. وإذا كان قرار الإدارة الأميركية تحميل المصارف رسوماً، جاء على خلفية أن ستة مصارف كبرى أقرّت مكافآت بقيمة 150 بليون دولار إلى موظفيها، فللمصارف مبررات تتجلّى في عمليات التنافس بينها لاقتناص مودعين ومستثمرين، ما يدفعها إلى رصد حوافز مغرية لهم، بخاصةٍ أن مصارف نجت من الأزمة ونأت عن الكارثة تعرض مكافآت مجزية. ولا يسع مؤسسات المال أن تستمر وتتقدم وتحقق أرباحاً وترسّخ دعائم وجودها، لولا التنافسية ولولا تقديم مكافآتٍ إلى الزبائن، ... حتى أنّ مؤسساتٍ اعتمدت قبل الأزمة، مغرياتٍ لا تتوافق مع «النظم الأخلاقية الاجتماعية»، وقد تستمر في مثل هذه الأساليب، طالما أن من يعتمدها يحقق ثرواتٍ لم يشهدها سابقاً، تنتجُ فئة اجتماعية مختلفة، قادرة مالياً، وتتمتع بمكتسبات حياتية «استثنائية». وفي المطلق، يكوّن القطاع المصرفي دخله وأرباحه من عملياته المالية، سواء باستثمار إيداعاته لدى القطاع العام ودعم مالية الدول ذات الموازنات العاجزة عبر سندات خزينة، أو من استثمارات القطاع الخاص. وتضمنُ عملياته قوانينُ ضابطة، تشرفُ عليها السلطات النقدية تمثلها المصارف المركزية، على الصعيد المحلي، ومقررات دولية تجسّدها معايير «بال». وتتحقق عائدات المصارف من الفوائد الدائنة مع اقتطاع الفوائد المدينة منها، وهي حقٌ للمودعين والزبائن. ولا تغري الفائدة الرئيسة على الدولار (نصف نقطة مئوية)، المدخرين على الإيداع لدى المصارف الأميركية، بل على الاستثمار. لكن نمو الاستثمار ينتظر بدوره جلاء اتجاه الاقتصاد الوطني بخاصة والعالمي عموماً، ليحدد مساره واتجاهاته. وفي مناخٍ اقتصادي يحكمه الركود من جهة والحذر من جهةٍ ثانية، لا بدّ لمؤسسات المال من اللجوء إلى آليات جاذبة تحقق الأرباح للمصارف، ولا يتم مثل هذا الاندفاع من دون مكافآت. وسواء فرضت الإدارة الأميركية ضرائب أم لا، ففي المطلق، من يدفع هذه الضرائب هم المكلفون في النهاية. فقيم المنتجات المصرفية وأدواتها تتكوّن من أثمان تتداخل فيها بنود المدخلات والمخرجات، وكل زيادة على قيم هذه الأثمان ترفع من سعر «مبيعها» واستثمارها تالياً. ما يعني أن المصارف الأميركية ستضطر إلى توزيع مبالغ الرسوم الجديدة على استثماراتها وتشغيلاتها المالية، فتلجأُ تالياً إلى خفض الفائدة على المدخرات ما يقلصّ عائدات المكلّف الأميركي، أو تزيد تكاليف استثماراتها بما يعود عبئه في النهاية على المكلّف نفسه الذي يحتاج إلى التعامل مع مولّدات هذه الاستثمارات. والنتيجة الوقوع في فخ التضخم، لأن ارتفاع «ثمن» الاستثمارات المصرفية، يدخل في حلقة زيادة أثمان المنتجات، ويعوق في مرحلةٍ ما رفع الفائدة الضروري لتحسين قيمة العملة. وتغرق الإدارة الأميركية في ما هربت منه من تدابير باعتمادها خفض الفائدة الرئيسة، لتشجيع الصادرات، فتعود تكلفة هذه الصادرات وترتفع، وتلقى منافسة في الأسواق الخارجية. ويبدو للآن أن الإدارة الأميركية تنأى عن إصدار تشريعات تُلزمُ الجهاز المصرفي الوطني بضبط عملياته ضمن معايير تقيه من الإفلاسات والانهيارات.