تتكئ رواية «بندقية أبي» للكاتب الكردي المقيم في باريس هِنْرِ سَليم على فن السيرة الذاتية، لتُعيدَ بناءَ وقائع طفولته في كردستان بناءً تلتقي فيه أصوات ذاكرته الفردية مع أصوات ذاكرته الجماعية زمن حكم الرئيسيْن أحمد حسن البكر وصدّام حسين. ترسم الرواية مشهديّة تاريخية يتوهّج فيها حضور العادات والتقاليد الشعبية كالملبس والمأكل وطقوس الأفراح والصبر على الآلام، ويمتزج داخلها عشق الناس للسلاح بعشقهم للأغنيات. وتُحيل - عبر حكيٍ دراميّ مكثّف - على فصول من تشرّد الأكراد وإصرارهم على النضال والتمسّك بهُويّتهم العرقية والجغرافية بقيادة زعيمهم السياسي المُلّا مصطفى البارزاني الذي خذلته القوى العظمى الدولية في حربه التحريرية لإقليم كردستان، وبخاصّة أميركا. تُرجمت الرواية التي نقلها من الفرنسية إلى العربية المترجم سعيد محمود ونشرتها دار «آفيستا» التركية بالتعاون مع جريدة «باس نيوز» في أربيل (2015)، إلى أكثر من ثلاثين لغة بعدما نُشرت للمرّة الأولى عن دار «سوي» في باريس عام 2004، ما يشي بكونها حقّقت مقروئية كبيرة لا نخالها إلا نتيجة لقيمة مضمونها الذي يحمل سخرية سوداء مؤلمة. ضياع الهوية تنفتح رواية «بندقية أبي» بمشهد حكائي يؤطّر به الراوي نَسَبَه العائليَّ تأطيراً لا يُخفي سخريتَه من مفعولية الأكراد في التاريخ الحديث وتشظّي كيانهم الجمعيّ بين سياسات خارجية سلبَتهم هُويّتهم، وتلاعبت بهم زمناً طويلاً يلخّصه بالقول: «اسمي آزاد شَرو سليم، أنا حفيد سليم ملاي، كان جدّي في غاية المرح، وكان يقول أنه وُلد كردياً على أرض حرّة. ثم جاء العثمانيون وقالوا لجدّي: «أنت عثماني»، فأصبح عثمانياً. بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية أصبح تركياً. رحل الأتراك فأصبح كردياً في مملكة الشيخ محمود، ملك الكرد، ثم جاء الإنكليز فأصبح جدي موضع اهتمام صاحبة الجلالة، حتى أنه تعلّم بعض الكلمات الإنكليزية. ابتكر الإنكليز العراق، أصبح جدي عراقياً». إلّا أنّ الرواية تعمد، في بقية صفحاتها، الى تحفيز شخصياتها على صناعة تاريخٍ نضاليٍّ جديدٍ لهم، مهّد له الراوي باستدراك ذكيّ ختم به الشاهد السابق وصورتُه أنّ جدَّه لم يفهم لغز ظهور العراق، وأنه «لم يشعر بالفخر لأنه عراقي» حتى إلى آخر حياته. وهو قطعٌ سنُلفي له تجلياً في شخصية الأب «شَرو سليم ملاي» - عامل الشيفرة الخاص بالجنرال البارزاني - الذي التحم ببندقية من نوع «برنو» وظلّ يتراوح بين القتال في الجبال لصدّ غارات الطائرات العراقية، والعودة إلى مدينة «آكري» لحماية أبنائه وعشيرته من جنود حزب البعث الذين يعيثون في المدينة فساداً من دون أن يكف عن القول: «بعد عام سيتحرّر وطننا». وهو استطاع أن يمرّر طقوسه الثورية إلى أبنائه، بحيث التحق ابنه «دلوفان» بثوّار الجبال وتكفّل بإلقاء خُطب الحماسة في إذاعة كردستان. أمّا ابنه آزاد، راوي الحكاية، فتدرّب على استعمال السلاح ككلّ أبناء شعبه، والتحق بالمقاتلين الأكراد مدفوعاً بمثل شعبيّ كردي يقول: «لا أصدقاء سوى الجبال». وفي نوبة حراسته يُحدّثنا عن وعيِه بضرورة البحث عن شكل آخر للنضال، وذلك في قوله: «مُستَنِداً بظهري إلى صخرة، كنتُ أشرف على مساحة شاسعة، ألمحُ في الوادي بقعاً سوداء، هي القرى المُدمَّرة، أشهرتُ سلاحي على كلّ شيء من حولي وأنا أشعر بأني نابليون حقيقي... ثم تذكّرتُ (برنو) أبي. ما الذي جنيناه طيلة هذه السنين من النضال؟ يلزمنا شيء آخر، لكن ما هو؟ لم أكن أملك الجواب». حلم الهجرة غير أنّ غرامه بالتلفزيون والسينما والشعر الكردي جعله يهتدي إلى الجواب، وهو ضرورة الهجرة إلى أوروبا، لكي يتمكّن من تحقيق حلمه النضاليّ: «كنتُ أرغب بشدّة في متابعة تلفزيون كردي.كنتُ أعرف أن حلم أبي هو أن أصبح قاضياً أو محامياً، ولكن أنا، أردتُ أن أبتكر تلفزيوناً يتحدّث بلغتنا. سأكون حينها مبتكِراً، وصانع أفلام... أقسمتُ أنني سأجعل هذه الآلة تتكلّم الكردية يوماً ما». وعليه، لمّا بلغ السابعة عشرة، وضع في حقيبة السفر «زيّاً كردياً، شريطَ أغاني كردية، كتابَ شعر كردي»، وغادر العراق عبر بوابته السورية صوب إيطاليا، ثم فرنسا. هذه السيرة الأُسَريّة المختصَرة ليست إلا تفصيلاً من تفاصيل سيرة الكرد في كردستان التي استطاع الكاتب أن ينوّع من تلويناتها توصيفاً هو من شعبه وثيقةٌ عنه تاريخيةٌ وإنْ كُتبت بصيغة أدبية إذْ، خلال رواية الكاتب سيرته، ظلّ يوجّه نقده إلى السلطة المركزية في بغداد التي جعلت الأكراد يعيشون حالة من الهروب الدائم من مدينة آكري إلى قرية بيله إلى مخيّم إيراني، ثم العودة إلى آكري بسبب تنكّر صدّام حسين تعهّداته لهم، وتخلّي أميركا عن دعمها للجنرال البارزاني. ومن النقد ما يوجّهه الراوي إلى الإطارات الطبية التي تمزج بين الإنساني والسياسي في تعاطيها مع المرضى. فهو حين حمل ابنة أخيه زيلان إلى المستشفى بسبب ضيق التنفّس، تلكّأ الطبيب في فحصها، ووصفها بكونها «ابنة إرهابيّ»، وهو تلكّؤٌ أدّى إلى وفاتها. ثم إن الرواية لا تنسى أن تسخر من فساد أعوان الأمن العراقيّين. لقد قبل أحدهم رشوة لكي يدلّس تاريخ ميلاد الراوي عند استخراج جواز السفر، وكان الآخر يتاجر في تهريب الأشخاص، بحيث سمح له بالمرور من بوابة العراق صوب سورية بعد تفاهم سريّ أجراه مع سائق سيارة الأجرة. ومن السخرية أيضاً، وصف الكاتب نادل المقهى الذي ظلّ كل يومه ينظّف بلّور صورة الرئيس صدّام المعلّقة على واجهة المقهى مِمَّا يعلق بها من أتربةٍ بسبب مرور السيارات، ما ألجأه إلى البصق عليها لتسهيل تنظيفها، وهو ما أخاف صاحبَ المقهى الذي زجره بالقول: «لو رآك أحدهم، يا ابن الحمار، سينتهي أمرُ صالون الشاي». والظاهر أن رواية «بندقية أبي» لم تدّخر أيّ طاقة فنية أو حدثية لتقديم شهادة عن مرحلة مهمّة من تاريخ سكّان إقليم كردستان، إذ وثّقت بتكثيف سرديّ كبير كلّ تفاصيل معاناة هؤلاء الناس من دون إيغال في التمجيد المجّاني.