تحملت جهداً غير طبيعي كي أفاجئ الوشاحي وأزوره في ورشته، جلست على صالون عتيق في انتظار أن تبلغه السيدة التي استقبلتني بحضوري، أتاني صوته من الداخل وهو ينطق اسمي بقوة لكن من حنجرة مبحوحة، ثم بدأت دقات عصاه تقترب، وقفت تأهباً لاختصار المسافة ولأطلب منه المكوث مكانه حتى آتيه بنفسي لكني ترددت، هلت طلعته المصحوبة بصوت يصر على أن يظهر قوياً كالسابق ولم أتمكن من التفرس في ملامحه لأني فوجئت بيده الحرة من العصا تدفع يد السيدة التي كانت تهم بمساعدته على تخطي الدرجة الوحيدة التي تفصل الرسيبشن عن الغرف الداخلية، ثم مد يده بحماسة وهو يطلق عبارات مثل: «أخيراً يا ندلة... ده أنا قلت مش هنتقابل تاني»، تجنبت يده الممتدة فطرفت عيناه ثم بوغت وأنا أشب على كعبي وأقبله على وجنتيه، رفع رأسه الذي كان قد انحنى بسرعة لتلقي قبلاتي ونظر لي بامتنان ثم طلب من السيدة أن تحضر لنا عصير برتقال. دخلت في موضوع الفيلم مباشرة وطلبت منه أن يعطيني بعض الصور والبروشورات الخاصة بمعارضه ومنحوتاته سواء في مصر أو الخارج وكل ما كتب عنه باللغات الحية، ورغم أنه كان يجلس بصعوبة وأكاد أسمع صدى أنفاسه وهي تصطدم بأعضائه الحيوية، إلا أنه نهض ولم يختل توازنه واقترب مني محاولاً جذب يدي لكي يريني بعض الاسكتشات والمنحوتات بالداخل، ابتسمت رافضة ومعللة ذلك بأنه ستكون هناك معاينة تفصيلية عندما نحدد الشكل النهائي للإسكربت، جلس مرة أخرى وعلى وجهه عدم الاقتناع بكلامي وكنت في الوقت ذاته مسكونة بإعجاب خفي بهذه الروح الوثابة التي رغم ما تعانيه من آثار مرض قاسٍ لا تمكنه من هزيمتها بسهولة، وأتعجب بالمقدار نفسه من تميم الذي تمكنت روحه المنهزمة من إيقاف كل أعضائه الحيوية رغم سلامتها التامة من أي مرض عضوي! ثم سألني الوشاحي عن مقترحي لمن سيخرج الفيلم فذكرت له صديقي إبراهيم وقلت إنه مجتهد ودؤوب، قال إنه رغم ثقته في اختياراتي لكنه يفضل أن الذي يخرج فيلمه يكون من المخرجين المشهورين المحبين للفن التشكيلي مثل داود عبدالسيد أو محمد خان أو خيري بشارة. وذكر الفيلم الذي أخرجه خيري بشارة في أول حياته الفنية عن المثَّال عبدالبديع عبدالحي وكان يتذكر بعض تفاصيله ويصفها لي لكني لم أعلق بسبب عدم رؤيتي لذلك الفيلم. وعندما انتهى أخبرته بأني لست على معرفة شخصية بأي من هؤلاء المخرجين وطلبت منه إرجاء هذا الموضوع حتى نجد أولاً جهة الإنتاج المتحمسة وبناء عليه يمكننا مخاطبة أحدهم، قال إنهم أصدقاؤه وسيجعلني أقابلهم وأتكلم معهم عن الفيلم. ولأني لا أحب هذه الطريقة وهي أن الشخص موضوع الفيلم يتصور أنه كل شيء في الفيلم ويظل يقترح من يكتب فيلمه ومن يخرجه ومن يصوره ومن يضع موسيقاه التصويرية، بان على وجهي الضيق ففهم الوشاحي وقال لي ضاحكا: «خلاص يا جيهان أنا سايب نفسي. أنا أضمنك برقبتي... سيري على بركة الله». قالها بطريقة الصور الغنائية في الإذاعة قديماً، فضحكت وفي أثناء ذلك كلف السيدة بجمع بعض المواد الورقية مثل صور أعماله وسيرته الذاتية وبعض ما كتب عنه وطلب منها أن تضع كل ذلك في دوسيه وتعطيه لي. وبعد أن انصرفت السيدة، عاد مرة أخرى يتكلم كالحالم عن تصوره لبعض مشاهده، سكتّ ولم أنطق وتركته يتخيل ما يريد، انتبه بعد فترة لصمتي فعلق بذكاء: «إنتي طبعاً كنتي بتقولي في نفسك إيه الراجل ده اللي عمال يتدخل في حاجات مش شغله. عندك حق والله. أنا بس باحاول أقول حاجات يمكن تلهمك»، ابتسمت وقلت له إن الأفضل أن يوفر ذلك إلى حين يجالسه كاتب السيناريو، قال إنه كان يفضل أن أكتب أنا سيناريو الفيلم بالإضافة إلى التصوير، سكت تماماً فأضاف ساخراً: «خلاص يا جيهان أنا مش هادَّخَّل تاني بس عشان خاطري مش عايزه زي الأفلام اللي بيعملها التلفزيون للفنانين التشكيليين ومافيش فيها غير كاميرا زووم على اللوحة أو التمثال ومعلق حربي بيعلق على اللقطات ويقول: وها هو الفنان يستخدم اللون الأحمر القاني لون الدم والشفق. وكلام زبالة كتير زي ده». شاركته الضحك وأنا أعده بأن يعلق على الفيلم صوت نسائي مميز وألا أستخدم عدسة الزووم إلا في ما ندر. عدت إلى البيت بعد أن اشتد حر الشمس ولم ألحق بموعدي مع إبراهيم وفريد لتأخري بسبب الوشاحي، الذي لم أكن أعلم أنه غيَّر عنوانه ولأني بقيت عنده أكثر مما قدرت، وكنت قد اتصلت بإبراهيم وطلبت إرجاء الموعد إلى المساء فقال إنه سيتواجد في مقهى القصر العيني الساعة الرابعة ومعه فريد لأن لديهما مواعيد متلاحقة وأنهما سينتظران حضوري. تحممت وتناولت بعض الطعام ثم رقدت قليلاً وأفقت على ما يشبه رؤيا أو حلماً لم أتذكر تفاصيله، لكن المدهش فيه أني كنت أصور الوشاحي وهو يشرح رؤيته لأحد تماثيله وكنت مندمجة تماماً مع ما يقوله، بينما المخرج يصرخ في «الإيربيس» بأن أكتفي بهذا القدر من التصوير وأقطع على «الوشاحي»، وعندما زاد صياح المخرج التفتُّ إليه بغضب وعيني متنمرة فانكمش جداً ولم يقدر على مواجهتي بعينيه. المدهش أن هذا المخرج هو تميم. لم يشغلني هذا الحلم كثيراً وأبعدته عن ذهني كأنه من المسلمات، ثم تذكرت أن بسمة لم تتصل بي منذ مكالمتي مع أمها، وكنت أدرك أنها في قمة الغيظ ولا أستبعد أنها تكون عملت لي «بلوك» في الفايس بوك فهي موتورة، وضحكت من هذا التصور. ثم انتابني بعض الضيق لفكرة أن تجعلني جسراً تمر عليه إلى رغباتها، وعملت «Search» على المؤتمر الدولي لإدارة معلومات الأعمال الذي سينعقد في مدينة روسبتوك في وسط ألمانيا، ووجدت أن مدة المؤتمر أربعة أيام وتعجبت من أن خيري أبلغها بأن وجوده هناك لمدة شهر. ثم انتبهت إلى أن خيري» حججه لا تنضب وبسمة على استعداد لتصديقه ولو قال لها إن هتلر ما زال حياً وأنه ذاهب لمقابلته هناك. هي حرة في روحها لكني لن أنساق وراءها حتى تحت أي مقولة كبرى مثل «إنتي صديقتي الوحيدة... إنتي أختي التي لم تنجبها أمي». ثم ظهر طيف رنا فجأة وهي تحدثني مرة عن جنون بسمة، قبل أن يتفقا ويصبحا كالحلة وغطاها، وأن بسمة كلما رأت فتاة جديدة تعلق على كتابات خيري. لا تهمد حتى تتعرف عليها ثم تصطحبها معها في أثناء لقائها بخيري، من دون أن تخبره قطعاً، ثم تركز على تفاصيل اللقاء منذ أول لحظة منه هل بان على أي منهما أنهما كانا يعرفان بعضهما من قبل؟ هل اهتم بشكلها وملبسها أو بتعليقاتها أم استاء من وجودها؟ وهكذا، وعند نهاية اللقاء تبدو بسمة في قمة السعادة لعدم اهتمام خيري بالفتاة، علقت رنا أثناء وجودي معها بأن بسمة تبدو كمن تجمع الدجاجات لديك البرابر وأنه في يوم ما ستعجبه إحداهن ويطير بها بعيداً. * فصل من رواية تصدر عن الدار المصرية اللبنانية