ما زالت تبعات الاعتداء على مطرانية نجع حمادي في صعيد مصر عشية عيد الميلاد الأربعاء الماضي الذي أدى إلى مقتل ستة أقباط وشرطي مسلم وجرح تسعة آخرين، مستمرة في التفاعل. ولم تتمكن التعزيزات الأمنية التي حولت المدينة ثكنة عسكرية والاعتقالات التي نفذتها أجهزة الأمن وزيارات مسؤولين من الحزب الحاكم لقيادات الكنيسة، من تخفيف حدة الاحتقان. وعلى رغم انتشار قوات الأمن بكثافة في شوارع نجع حمادي (700 كلم جنوبالقاهرة) على مدى الأيام الأربعة الماضية، فإن المدينة الشهيرة بكونها أكبر مجمع لصناعة الألومنيوم في مصر ما زالت تشهد اشتباكات بين مسلمين وأقباط. وذكرت وكالة «فرانس بريس» أن الشرطة أوقفت أمس 42 شخصاً (14 مسلماً و28 قبطياً) يشتبه في مشاركتهم في أعمال العنف بين الجانبين في قرية بهجورة القريبة من نجع حمادي. وقال مدير أمن قنا اللواء محمود جوهر إن «11 محلاً وثمانية منازل ودراجتين بخاريتين جميعها مملوكة لأقباط أحرقت خلال أعمال العنف التي وقعت في بهجورة» مساء الجمعة. وقال مصدر أمني إنه «تم توقيف مثيري الشغب من المسلمين والأقباط». وأمام متاجر تفحمت واجهاتها التي كانت في الأصل مطلية بالأزرق أو بالأخضر، يقف رجال بالجلباب التقليدي على رسوغهم وشم الصليب وتبدو على ملامحهم علامات الحزن الشديد على الأضرار التي لحقت بممتلكاتهم. ويقول هؤلاء إن الذين قاموا بإحراق المحلات «صبية متشردين» من المسلمين. ويقول مسلمون في القرية إنهم أحرقوا محلات ومنازل بعض الأقباط انتقاماً منهم بعدما سمعوا أن مسلماً قُتل بالرصاص على يد مسيحيين. أما الأقباط، فيقولون إن سيدة مسيحية قُتلت مختنقة بسبب الحرائق التي أشعلها مسلمون. وعلى رغم نفي مسؤولين هذه الإدعاءات، إلا أن الإشاعات تزداد انتشاراً في القرية ما يؤدي إلى تصاعد التوتر. ولدى سكان بهجورة ونجع حمادي اعتقاد راسخ وقناعة تامة بأن السلطات تغض الطرف عن أعمال العنف التي يقوم بها المسلمون، بل يعتقدون حتى أنها تحمي المسلمين الذين يقفون وراء أعمال العنف والتوتر الطائفي. ويؤكد العديد من الأقباط في بهجورة أن الحكومة تحاول التهوين والتقليل من شأن المشاكل الطائفية. ويؤكد ملاك، وهو شاب في الثانية والعشرين من عمره، أن «السبب الوحيد لبقاء الأوضاع هادئة هو الوجود الكثيف لقوات الأمن، إذا حدث تخفيف للتواجد الأمني ستنفجر الأوضاع». ويضيف مسيحي آخر لا يرغب في كشف اسمه أن «المشكلة بين المسيحيين والمسلمين ضخمة، والشرطة تلعب دوراً فيها، وكذلك الأجهزة الأمنية والسياسيون». وفي نجع حمادي، أكد سكان ل «الحياة» أن الحشود الأمنية التي نشرت في شوارع المدينة التي تبعد عن محافظة الأقصر السياحية بنحو 60 كلم، لم تمنع مشاحنات جانبية وتبادل للسباب بين المسلمين والأقباط. وقال أحدهم: «نعيش في مدينة بات يسكنها الأشباح. آثار الدمار التي خلفتها المشاحنات التي جرت الجمعة تخيم على المنازل ورائحة الموت تفوح من الأماكن التي وقعت فيها الهجمات». إلى ذلك، استمرت نيابة قنا أمس في تحقيقاتها مع المتهمين الثلاثة الذين نفذوا الهجوم على الكنيسة عشية احتفال الأقباط بميلاد السيد المسيح. وقالت مصادر أمنية ل «الحياة» إن «المتهم هنداوي السيد محمد اعترف بارتكابه الجريمة بداعي الثأر من اغتصاب مسيحي طفلة مسلمة في مدينة فرشوط، وأقر في التحقيقات باشتراك المتهمين الآخرين حمام الكموني وقرشي حجاج معه في الجريمة، غير أن الكموني وحجاج أنكرا ارتكابهما الجريمة لدى مواجهتهما باعترافات المتهم الأول». وزار أمس أمين التنظيم في الحزب الوطني الحاكم رجل الأعمال الشهير أحمد عز وعدد من قيادات الحزب مطرانية نجع حمادي التي تعرضت للهجوم، والتقوا مطران الكنيسة الأنبا كيرلس. وفي القاهرة، عقدت أمس 9 منظمات تمثل أقباط المهجر مؤتمراً صحافياً دانت فيه الهجوم على الكنيسة. واتهمت النظام المصري ب «العجز عن حماية مواطنيه الأقباط»، وأكدت في بيان وجود «تقاعس يعكس تهميشاً منهجياً للأقباط في كل مناحي الحياة». وانتقدت «مناخ الاستعلاء للمتشددين والمتطرفين ضد الأقباط» الذي «بات السائد في مصر». وقال المستشار القانوني للكنيسة المحامي نجيب جبرائيل ل «الحياة» إن «الأقباط في مصر سلكوا القنوات الشرعية والرسمية والشعبية كافة، لكن على ما يبدو أنهم ليسوا في ذهن الحكومة. ومن ثم، فلا يسعهم سوى أن يعبروا عن إحباط غير مشكوك فيه، وأن لا أمل لإصلاح أحوالهم، أو لحمايتهم من قبل النظام الحاكم». ودعت المنظمات التسع إلى «إعلان الحقائق كاملة وبشفافية واضحة، وأن يتخلى المسؤولون في الدولة عن سياسة التعتيم وتحجيم المشاكل وافتراض سذاجة المواطنين»، كما طالبت «بأن يكون الملف القبطي مباشرة أمام رئيس الجمهورية ونزعه من الجهاز الأمني، بعدما ثبت بما لا يدع مجالاً لأدنى شك فشل المعالجات الأمنية وسياسة المجالس العرفية». وقدمت الحكومة العزاء لأسر الضحايا على لسان وزير الدولة للشؤون القانونية المجالس النيابية الدكتور مفيد شهاب. وأكدت أن «العدالة ستأخذ مجراها وسيلقى المجرمون العقاب الشديد»، معلناً أن «القتلة مسجلون خطر وتم إلقاء القبض عليهم، إضافة إلى المعتدين على رجال الشرطة والمحال والسيارات خلال تشييع جنازات الضحايا، وسيتم تقديمهم إلى محاكمة عاجلة». وأجمع مجلس الشورى (الغرفة الثانية في البرلمان) أمس على إدانة «الحادث الإجرامي الذي وقع الأربعاء الماضي في مدينة نجع حمادي أثناء احتفالات المسيحيين بعيد الميلاد المجيد. واعتبر أن «الحادث عمل يجسد الخسة والغدر من أفراد تجردوا من أي مشاعر إنسانية، وتحركهم نفوس شريرة مريضة». وفي روما، دان البابا بنديكتوس السادس عشر أمس اعتداء الأربعاء الماضي، مؤكداً أن «العنف ضد المسيحيين في بعض البلاد يثير استنكار كثيرين أيضاً لأنه حدث في أقدس الأيام بالتقويم المسيحي. ويجب أن تنهض المؤسسات السياسية والدينية بمسؤولياتها. ولا يمكن أن يكون هناك عنف باسم الرب».