لم تكن الطفلة اليمنية العدنية فرح جعفر (6 سنوات)، تعلم ماذا تخبئ لها الأقدار، ولا تعلم ماذا يجري في بلادها من نزاع سوى كلمات محدودة تحفظها من والديها؟ أرادت فرح ذات ظهيرة قبل شهرين، عند بداية محاصرة الحوثيين لعدن، أن تشتري «شوكولا» من بقالة صغيرة وسط الحي الذي تقطنه أسرتها في عدن، لا يبعد عن منزلها سوى أمتار. ألحت على والدها في ظل ممانعة والدتها، فوافق مرغماً أمام إلحاحها، وفشلت والدتها في ثنيهما عن الخروج إلى تلك البقالة لجلب الشوكولا «المشؤومة» في ظل الأوضاع الأمنية الصعبة، وإطلاق الحوثيين الأعيرة النارية في كل اتجاه لإخضاع عدن بالقوة. انطلقت فرح تسابق الريح إلى جوار والدها يمازحها في طريقهما إلى ذلك «الدكان»، ولكن الحوثيين كانوا لهما بالمرصاد، وما هي إلا لحظات منذ الخروج، حتى أصابت والدها رصاصة اخترقت جسده النحيل، لكنها لم ترده قتيلاً، وظل يصرخ سابحاً في دمائه، ومحتضناً ابنته التي أصابتها رصاصة أخرى استقرت في جمجمتها الصغيرة، وسقطت مغشياً عليها، والدماء تنزف منها! لم يفلح علاج الأطباء بعدن في انتشال فرح من الأوجاع والآلام والصراخ والبكاء، ووصلت قصتها إلى السيدة الأولى في جيبوتي حرم الرئيس إسماعيل غيلي بعد وصولها وأمها إلى مخيمات اللاجئين اليمنيين في جيبوتي، فارتين من جحيم الحرب بحثاً عن الأمان من نيران الحوثيين، وقوات علي عبدالله صالح. تابعت حرم الرئيس السيدة خضراء حيدا حال الطفلة الحرجة، وأبلغت الرئيس غيلي بضرورة التدخل الطبي لنزع الرصاصة من رأسها. استنفر الأطباء في جيبوتي وحاولوا مساعدتها، لكن الإمكانات الطبية كانت ضعيفة. تولت المسألة حرم الرئيس بقلب أم، واتصلت بالسفير الجيبوتي لدى فرنسا عايد مسعد، وزوّدته بالتقارير الطبية، طالبة منه المساعدة العاجلة في علاج الطفلة على نفقتها، وإجابتها بسرعة، وليكن ذلك خلال 24 ساعة. عاد السفير إلى السيدة خضراء بخبر سار مفاده أنه وجد مستشفى في باريس، ولديه الاستعداد لاستقبالها وعلاجها، وسيبذل أطباؤه كل جهودهم لإنقاذ فرح قدر المستطاع. طلبت حرم الرئيس من المسؤولين في بلادها استكمال كل الأوراق الخاصة بالطفلة وأمها، وإرسالهما في أول طائرة تغادر إلى باريس لتلقي العلاج، وبالفعل تم ذلك خلال 48 ساعة. وصلت فرح إلى باريس وأدخلت المستشفى مباشرة، وأجريت لها جراحة عاجلة بعد عمل أشعة مقطعية وتنظيف الرأس من آثار الرصاصة، وإغلاق الفتحة التي أحدثتها بها، لكن رأي الأطباء استقر على خطورة محاولة إخراج الرصاصة من الجمجمة لقربها من أوردة دموية. يقول الطبيب المعالج في المستشفى الباريسي: «لقد اخترقت الرصاصة رأس الطفلة لولبياً، ودمّرت الأنسجة، وأبقت فتحة كبيرة في مؤخرة الرأس، لكن قلب فرح لم يتوقف، على رغم هشاشة رأس من هو في عمرها». ويضيف: «الشيء الجيد أن الأطباء في اليمن وفي جيبوتي عملوا على وقف نزف الدم مباشرة، ولو لم يتمكنوا من ذلك لفارقت الحياة، لكون إصابات الرأس قاتلة». فيما تقول والدتها: «سألت الأطباء قبل قرار المغادرة بالطائرة لرحلة طويلة، هل هناك خطورة عليها، فردوا: لا». وتروي ل«الحياة»: «فور وصولنا إلى المستشفى في باريس تم عمل أشعة متقدمة لمخ فرح، وحُدد مكان الرصاصة، وكانت واضحة، رأيتها بعيني». ويقول الأطباء: «لقد أدت الرصاصة إلى تلف بالمخ مع كسور في الجمجمة، والرصاصة مستقرة في أسفل الرأس، وبعد الجراحة قرروا بقاء الرصاصة في مكانها لخطورة استخراجها، لكنها ستعيش طبيعية، لكنها لو تحركت ستكون خطرة على حياتها». في مبنى السفارة الجيبوتية في باريس التقيت الطفلة فرح ووالدتها. كان لفرح من اسمها نصيب، إذ كانت توزّع الابتسامات في أرجاء السفارة بعد أن تماثلت للشفاء، فيما والدتها لا تتوقف عن الدعاء والشكر لحرم الرئيس الجيبوتي على وقفتها ومساعدتها الإنسانية في علاج ابنتها، فيما قلبها يقطر ألماً على أهلها وزوجها الذي لا يزال يتلقى العلاج في جيبوتي، وحاله غير جيدة كما تقول. في الوقت نفسه، تشير تقارير منظمة الأممالمتحدة للطفولة (اليونيسيف) إلى أن 135 طفلاً قتلوا وأصيب 260 آخرين، نتيجة الصراع الداخلي في اليمن، مطالبة بحمايتهم، وألا يتركوا لدفع ثمن العنف بين الأطراف المتنازعة. فيما قدمت والدة فرح عبر «الحياة» شكرها للمملكة العربية السعودية، والملك سلمان على موقفهم معنا، والحوثيون لا يتورعون عن استهداف الأطفال والنساء في عدن بل يتعمدون ذلك. وتضيف: «الشعب اليمني في محنة إنسانية، فهناك من قتل ومن هجّر لدول الجوار، ومن تقطعت بهم الأسباب، وبعضهم يسكنون مخيمات لا يتوافر فيها الغذاء ولا الدواء، ولا الماء النظيف». وتضيف وعيناها تفيضان بالدمع: «قصص اليمنيين صعبة والحوثيون يرتكبون جرائم تدمي القلب. الله لا يوفقهم». أما فرح فكتب الله لها عمراً جديداً وستعود قريباً إلى جيبوتي، ثم إلى اليمن، لكن الرصاصة التي استقرت في رأسها ستبقى شاهدة على حقد الحوثيين و«عفاش».