لأن الماضي بمشكلاته ومعضلاته لم يصبح بالنسبة إلينا في العالم العربي تاريخاً يقدّم العبر والدروس والتجارب، ولأنّ الماضي ما زال يستغرق مساحة وافرة في حاضرنا، ولأنّ هذا الماضي هو ما يصنع بسطوته علينا كثيراً من معضلات وويلات حاضرنا، ويحدد رؤانا وأفكارنا، فإنه لا فكاك لنا من الاهتمام بهذا الماضي والسعي لتفكيكه وقراءته نقدياً، وصولاً إلى استحالته تاريخاً، وتجارب إنسانية منزوعة القداسة، وهي مهمة ما زالت غير ناجزة في الفكر العربي، وتقف بصفتها أحد أهم التحديات أمام هذا الفكر وأيلولته أداة للتقدم والتنمية وبناء دول ومجتمعات مدنية حديثة. لقد أصبحت ظاهرة التدين الفردي خارج النطاق الحركي سمة أساسية من سمات العقدين الأخيرين في المنطقة العربية، فقد كان شائعاً أن يتم عقد علاقة مماهاة وتطابق بين الشخص المتدين والمنظّم في حركة دينية و/أو سياسية ذات طبيعة حركية، تنطوي على «رسالة» شاملة أو جزئية. وكان من الشائع أيضاً ألا يكتمل التدين من دون الانضواء في مثل ذلك الإطار التنظيمي المتنوع في لافتاته في العالم العربي والإسلامي. لكنّ شيوع الفضائيات والإنترنت والكاسيت والأقراص المدمجة... أوجد مساحات واسعة في الاختيار والانتقاء وممارسة التدين بأنماط وأشكال متنوعة ومختلفة، بعيداً من سياقات تنظيمية كانت تحتكر هذه الأدوار في السابق وتمثلها. وظاهرة تنوع التدين الفردي وتوافر مجالات الاختيار والانتقاء، أوجدتْ حراكاً فكرياً ما زال في منتصف الطريق نمواً وانتشاراً، لكن من المهيّأ له أن يقدم رؤى تزيل الفصام بين الدين والعصر، وتنتج قراءات أكثر جرأة للدين تتناول قضايا أساسية مثل العرَضي والجوهري في الدين، وهي ما أسهب في غناها المفكر الإيراني عبدالكريم سروش، الذي يقول: «إنّ لبوس الثقافة القومية (العربية هنا)، من لغة وأذواق وأساليب حياة ونقاط ضعف وقوة عقلية وخيالية وعادات وتقاليد ومألوفات ومسلّمات فكرية وخزين لغوي ومفاهيمي، يضيف على جسد العقيدة والفكر ويخلع عليه نواقصه وكمالاته لا محالة». وليس عبثاً أن يكون للدين (الإسلام على وجه الخصوص) دور أساسي في الحياة العامة في العالم العربي، ذلك أن الحضارة العربية إنما انبنتْ على نص مقدّس، وانبرتْ العلوم والمعارف تتخلق في تاريخنا خدمة لذلك النص القرآني، فكانت علوم النحو والبلاغة والتفسير والمعاجم... وغيرها قد نشأتْ ونضجت ونمتْ تحت وطأة خدمة النص المقدس، وإظهاراً لإعجازه اللغوي، ومنعاً، أو على الأقل، تقليصاً للحنِ الذي بدأ يتفشّى جرّاء دخول أقوام وشعوب غير عربية في الإسلام. لكنّ المشكلة الأولى أنّ تلك العلوم والمعارف التي توسعتْ على مدى عصور الحضارة العربية، أصبحتْ في مضامينها الإجمالية من الرسوخ والمكانة بما يوازي ما للنص المقدّس تقريباً من المكانة والرسوخ، ناهيك عن أنها رسمتْ أُطُراً معرفية وسياقات منهجية قدّمتْ نفسها على نحو يُظهرها وكأنها النموذج الذي ينبغي الأخذ به عند مقاربة النص المقدس وفهمه وقراءته وتأويله، ما يعني أنها أوجدت عائقاً أمام تمثّل النبع الأصلي/ النص المقدّس، وتم التركيز على القراءة أكثر من التركيز على النص المؤسس، وارتقى التأويل البشري إلى مكانة الأصل المقدّس، وصار طلب العلم ينصبّ على العلم الديني. أي أن المشكلة الثانية تمثلتْ، استطراداً، في اتساع تلك العلوم التي ذكرنا في مقدمة المقال، وتضخمها على حساب ضمور في حقول معرفية أخرى شهدتْ فقراً هائلاً في الحضارة العربية. فمع كثرة علوم التفسير والفقه والعبادات والعقائد وتضخمها، وجدنا قصوراً فادحاً في الفكر السياسي والاجتماعي، ولم نشهد أدبيات تركّز على مركزية الإنسان وحقوقه، بل ساد فكر يروّج وينظر إلى الإنسان بصفته « مُكلّفاً» بما يترافق مع ذلك رسوخ منطق «التأثيم»، بدلاً من التركيز على حرية الفرد في خياراته وأفكاره وسلوكياته بعيداً من الجبرية والإكراه والقدَرية. لقد اتسعت مجالات اختيار الإنسان في العصر الحديث بنحو كبير جداً، فحلّ الاختيار والانتخاب، كما يقول محمد مجتهد شبستري، محلّ الاستسلام للقدر والمصير. وتأسيس النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العصر الحديث يستلزم الحرية والاختيار... الاختيار ما بين نظم مختلفة وقيم مختلفة، وهذا ليس اختياراً بين الحق والباطل، أو بين الصحيح وغير الصحيح، بل هو اختيار ما بين أمور متعددة ممكنة، لكل منها دلائله ومبرراته، وبالتالي، يتابع شبستري، «فإن اختيار أي منها لا يمكن أن يتم بجزم وقطع، بل بمجرد ترجيح أدلة على أدلة أخرى». هذا الموضوع المهم يستدعي تأسيس وعي انتخابيّ مدني، يقوم على الاختيار الحر والاقتناع العقلاني والإرادة المستقلة، لا وعياً «تكليفياً»، يقوم على وجوب التنفيذ والنظر إلى الدنيا والعالم والإنسان بمنطق الأبيض (الحلال) والحرام (الأسود). إن محورية الدين في المجال العام في العالم العربي تقدّم مسوغات أساسية لتحديث الثقافة الدينية لتتكيّف مع العصر وحقوق الإنسان كما ترسّختْ في زمننا الذي نعيش، وليس بناء على فقه نظر إلى الإنسان على أنه مكلّف، لا حرّاً مكتمل الإرادة، كامل الأهلية على التصرف الحكيم في هذه الدنيا والقدرة على إعمارها وتنميتها والارتقاء بهذا الكون. ولن تكون الثقافة الدينية جزءاً أساسياً في مسيرتنا نحو إرساء الثقافة المدنية والتقدم والتنمية إلا إذا كان في صلبها تأكيد مركزية الإنسان في هذه الحياة، عبر تأكيد حريته وإرادته المستقلة وقدرته الكاملة على الاختيار والتفكير وقيادة دنياه بما يخدم مصالحه، وهذا يتطلب قراءة أكثر نضجاً للنص القرآني الذي يركّز كثيراً على معاني الاختيار والإرادة الحرّة، وهو الأجدر بالأخذ به بدلاً من الأخذ برأي أدبيات تراثية جعلت مفهوم «التكليف» رديفاً لقصور العقل والفكر ونقص الأهلية، فكانت بذلك «تفرِش» بذوراً كثيرة في إنتاج تربة الاستبداد والقمع، حتى شاع بيننا الدعاء المشهور: «اللهم ولِّ علينا خيارنا ولا تولِّ علينا شرارنا»، فكأننا لا دور لنا في الأمر، وكأنه ليس من اختصاصنا! * كاتب أردني