أي أمة من الأمم لن يسودها التكامل الطبيعي بيئياً وحياتياً وتعليماً وتوظيفاً وأشغالاً وكل المجالات الحياتية اليومية وعلى مدى عمر الإنسان، إلا بضمان كل فرد في المجتمع للمساحة الشخصية التي كفلها الله تعالى للإنسان، والمساحة هي الحدود الطبيعية لكل إنسان، الحدود المكانية والزمانية، ورزقه، وسعادته، وحقوقه التي كفلتها الرسالات السماوية، وميّزته عن المخلوقات الأخرى... (ولقد كرمنا بني آدم). وأي غمط لحق من الحقوق، أو المساس بسعادته، أو سلبه رزقه بأي شكل من الأشكال، أو التسبب في هدر عمره المحدود، أو الإقتطاع من حيّزه المكاني، فإنما يقتطع ذلك المُقتَطِع حيّزاً من جهنم لنفسه.. (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). ولأن كل عاقل يحس ويدرك في نفسه، وبعقله الذي وهبه الله تعالى للتمييز، يحس بالحق والصواب، ويدرك حقوق الآخرين، وأبعاد المساحة الشخصية المكفولة لكل إنسان، وأن ليس من حق أحد وتحت أي مبرر التعدي على تلك المساحة الشخصية، فكانت خاتمة الرسالات السماوية، التي أعطت كل ذي حق حقه، وكفلت المساحة الشخصية لكل إنسان. (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً). إن أعظم أسباب تأخر الشعوب في مسيرة الحضارة الإنسانية، هو الضيم الذي يحسه الفرد ويؤثر على سلوكياته، ويعرقل إنتاجه وإبداعه الذي أودعه الله فيه (كُلٌ مُيَسّرٌ لما خُلِق له)... (وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على النفس من وقع الحُسام المهنّد)، فعلى كل فرد من أفراد الأمة، وكُلٌ من موقعه في المجتمع، والسلّم الوظيفي، وعمله، ومركزه، أن يعمل جاهداً على رفع الضيم عن غيره، مبتدئاً بنفسه! وليبدأ من المساحة التي يفترض أن زميله، وجاره ومواطنه الذي يتعامل معه يومياً، يتمتع بها كاملاً غير منقوص! فزميل العمل لابد أن يعرف حدود المساحة الشخصية لنفسه، وما إذا كانت تداخلت مع المساحة الشخصية لزميله، وكذلك الجار مع جاره، والموظف مع المراجعين، والتجار مع العملاء، والمؤسسات المالية «البنوك» مع أصحاب الحسابات، وشركات الاتصالات مع المشتركين، والمستشفيات الحكومية والأهلية مع المرضى، وأئمة المساجد مع المصلين، وأهل الوعظ والإرشاد مع المتلقين، والأمن مع المواطنين، والحِسبَة مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعلّمين مع الطلاب والعلم والتربية، والرؤساء مع المرؤوسين، والقضاة مع المتقاضين، وكل الناس مع بعضهم البعض! فهناك حد رفيع من القسطاس (وزنوا بالقسطاس المستقيم)، فوصف الله تعالى القسطاس بالمستقيم. إن احترام المساحة الشخصية المكفولة لكل إنسان، وعدم تداخلها، يحقق العدالة المطلقة، ولا يستدعي تدخل الأمن، أو القضاء، أو هيئة الرقابة والتحقيق! (الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني) الحديث. فلنبدأ من هذه اللحظة بمراعاة حقوق الجار، الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلّم «مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»، وأهم حق، إفشاء السلام، والسؤال عنه، وتبادل الزيارات معه، وعدم التسبب في إزعاجه، وحقوق أفراد المجتمع بعضهم بعضاً، وأن بناء الأمة (كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) وألا يتعالى أحد على أحد! فكلنا لآدم عليه السلام، وآدم من تراب! لأن كل أسرة هي مشروع قبيلة! وكل قبيلة بدأت بأسرة، وتكاثر عددها فصارت عشيرة، وتكاثرت أكثر، حتى صارت قبيلة، ولا يُستَثنَى إلا ابن الحرام! وهذا شأن آخر؟ فلنعد إلى المحَجّةِ البيضاء، ليلها كنهارها، ولنَعُض عليها بالنواجذ، فإن فعلنا، ستكون لنا مكانة بين الأمم. وإلا فإننا سنكون غثاءٌ كغثاء السيل، فلنحقق لكل إنسان مساحته الشخصية، ونحرص ألا تتداخل مساحة كل فرد مع مساحة الآخر، في كل شيء! وعندئذ فقط نكون أخذنا طريقنا الصحيح، وليعمل كلٌ منا جهده لإدراك مساحته الشخصية، ومساحة المواطن الآخر، وبكل دقةٍ متناهية، حتى يوفقنا الله في الدنيا والآخرة (ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقنا عذاب النار). ياسين البهيش - نيويورك