تقدم رواية «أقدار البلدة الطيبة» للروائي عبدالله الوصالي شكلاً سردياً قائماً على استدعاء التاريخ الشفوي من منظور راوٍ عليم تارةً، وبطل الرواية «سمير» تارةً أخرى. في تناوب يجدل أحداث الرواية من أولها إلى آخرها. بُني هذا الاستدعاء على حكاية تجري على ألسنة الناس حيث الكيان الذي اسمه «العثمانية» هو المكان الذي تؤرخ له الحكايةُ، وتعطيه الشكلَ التأسيسي الذي ينهض عليه لا باعتبار المكان المرتبط بوثائق المؤرخ المحترف وبمنطقه وعقلانيته، وإنما بالاعتبار الذي يوليه الروائي للمخيلة وبمنطقها السردي. لذلك تتضافر جهتان في بناء المتخيل السردي للمكان في الرواية، الجهة الأولى حكاية التأسيس ذاتها، والجهة الأخرى تستدعيها الحقائق الجغرافية والتاريخية المرتبطة بالمكان، من أحداث ووقائع وتواريخ. أولاً: 1- من جهة المحدد الجغرافي الذي يبثه السرد، فمنطقة الأحساء هي المقصودة بالمكان، يقول الراوي: «العثمانية كيان يقع إلى الجنوب من شرق جزيرة العرب» أو «كانت في الماضي كشامة خضراء في مفازة من رمال». 2- من جهة الوقائع التاريخية، حيث هنا الرواية تنفتح على مشهد «الشيخ القائم»، وهو ذاهب إلى مسجده عند صلاة الفجر حيث التراتيل والأدعية التي يلهج بها لسانه، وحرصه المستمر على متابعة البنائين الذين يشرفون على صيانة المسجد ببناء الجديد لأقواس رواقه، وتفكيره القلق بالخطب الذي ألم بالمنطقة. هذه الأمور الثلاثة التي ترتبط بسلوك شخصية «الشيخ» استطاعت الرواية أن تدمج خيوطها في نسيج البناء الفني لها، حتى وإن كانت دلالة هذا الدمج في بعضها، لا تتضح إلا لاحقاً، في الفصول الأخيرة من الرواية. فمضمون الأدعية ترفد القلق الذي يصرح به تفكيره على لسان الراوي «.. لكن الأمر جلل فقد نمى إلى علمه أن السلطان المهيب القادم من الوسط لاستعادة ملك آبائه وأجداده، والذي بدأ ملكه يتعاظم منبسطاً على المزيد من أراضي جزيرة العرب» ص17. هذا التفكير لا يؤدي وظيفة ترسيخ القلق فقط، وإنما يؤدي وظيفة أخرى -كما أشرنا إليها سابقاً- هي تضفير المتخيل السردي من جهة الوقائع التاريخية، فالسلطان المهيب في المرويات التاريخية ليس سوى الملك عبدالعزيز آل سعود حين أراد فتح الأحساء في الثلث الأول من القرن العشرين الماضي. وهناك أيضاً نتف من جمل سردية يشير إليها السارد بطرف خفي، جميعها تؤكد تاريخية المكان وبترميز مكثف، منها ما جرى على لسان الراوي «وغدت النخلة هي سجل ولادة العثمانية، ومهدها، وقفة زادها، وحاميتها إذا ما ادلهمت الحال» ص28، أو على لسان البطل سمير «سرى هاجس قدسية النخلة من جديد يتفوه به الكبير قبل الصغير» ص137، أو على لسان الراوي «لم يعد هناك من يرغب في إكمال مهمة الهدم بعدما وجدت الحكومة طريقة أسهل لاستنزاف ما تحت العثمانية من نفط» ص138. هذه الدلالات (النخلة، النفط) ركائز أساسية في بناء المتخيل السردي التي تأتي من جهة التاريخ. لكنها لا تستحوذ عليه بالتفاصيل، بل تأتي على شكل حكايات متداولة بين الناس لا تنفك تختلط بأحلامهم وعلاقاتهم اليومية وقيمهم المتوارثة، وهنا منبع المخيلة التي تلتقي في المنتصف من السرد مع تلك الدلالات. علاوة على ذلك، ثمة تواريخ واقعية تطل برأسها ثم تختفي سريعاً. هذه الإطلالة على خلفية أحداث الرواية، تعمل- أولاً- على تذكيرنا كقراء بين حين وآخر، بأن العثمانية هي أحساء متخيلة، وثانياً- تعمل على دمج أفعال الشخصيات في سياق التوثيق التاريخي. فحدثٌ مثل مقتل الملك فيصل يبرز وفق شروط يحددها السارد، والسارد هنا ليس سوى الطفل سمير برؤيته ووعيه ومنظوره. لذلك أبان في تصرفه عن مغزى، حين تناهى إلى سمعه لحظة دخوله المنزل، كلام صادر من أسرته عن موت فيصل خالطاً بين فيصل الملك وفيصل الآخر صديقه، ظناً منه أن الذي توفي هو صديقه. هذه اللقطة دليل على نزع الرتابة عن الواقعة التاريخية وإعطاء المخيلة مساحة من الحرية من خلال عيني طفل. حدث آخر يسرده لنا الراوي العليم يتعلق بوالد فريد، حين جرى اعتقاله في الستينات «ضمن اعتقالات السلطة ضد أتباع القوميين الناصريين» ص117، لكنّ هذه الإطلالة للحدث ليست كسابقتها، فهي أقل إدماجاً؛ لأن ارتباطها بثيمة (الخوف) عند شخصية والد فريد أقل بكثير عند أهل العثمانية. لكنّ اللافت للنظر، من جانب آخر، أن الرواية تؤرخ لأحداثها؛ انطلاقاً مما تسميه «سنة الفدية»، وهو تأريخ متخيل يتصل بالاتفاق الذي حصل بين راعي كيان العثمانية «الشيخ القائم» وبين السلطان المهيب بعد أن احتجز جنوده عشرة من أبناء العثمانية؛ كي يلتحقوا بالجهاد معهم، وكان الاتفاق «أن يتعهد الشيخ القائم بدفع نصيبهم في مساهمة الجهاد، ونصيب غيرهم من فتيان العثمانية كل سنة، وتوفير مدد التمر لجيش السلطان كل حوْل، على ألا يجوس الجنود داخل العثمانية، ويروِّعوا أهاليها. يفصح هذا التأريخ عن رغبة الرواية في إعادة تركيب ماضي العثمانية؛ اعتماداً على تقنية الإزاحة: إزاحة التاريخ الفعلي إلا من شذرات منه، واستبداله بتاريخ متخيل يخرج من رحم الحكاية، ليقوم لا حقاً بنسج شبكة من الدلالات والرموز، وظيفتها الأساس ربط أحداث الرواية بعضها ببعض من جهة، وإضفاء التكثيف الرمزي والشعري على دلالة الحدث من جهة أخرى. ولننتخب مثالاً على هذه الوظيفة، وعلى هذا التكثيف: يقول الراوي العليم في ص42: «فارق الشيخ القائم الذي شهد مقدم السلطان الحياة بعد نصف قرن من سنة الفدية. عاش عمراً مديداً مخلفاً بعد موته ابنتين إحداهما عانس وابنان ورث أحدهما الإشراف والتدريس في المدرسة التابعة للمسجد. بينما تولى الآخر تعهد المسجد والإمامة وقسمة الريع». ثم ينتقل السرد في الصفحة التي تليها إلى البطل سمير حيث يقول: «كانت تلك المدرسة واحدة من مميزات العثمانية التي ينشأ معنا فيها الكثير من الخوف، الخوف من الله، الخوف من السلطات، الخوف من الآباء، الخوف من الجن والسعالي والغيلان، والخوف من العين والحسد». نلحظ هنا أن التناوب في السرد بين الراوي العليم وبين البطل يشكل الرافعة التي ينهض فوقها عناصر التأريخ الجديد: العنصر الأول يمثله موت الشيخ القائم بعد نصف قرن من سنة الفدية، العنصر الثاني يمثله تولي أحد أبنائه الإشراف على المدرسة العثمانية، أما العنصر الثالث فيمثله سمير نيابة عن جيله. العنصران الأولان يسردان من وجهة نظر الراوي العليم بينما الأخير من وجهة نظر البطل. لكنها جميعاً تؤدي وظيفة الدلالة الواحدة، وتغذيها من العمق حكاية الفدية كمصدر لما ستؤول إليه شخصية أهل العثمانية إلى سمة الخوف والتوجس. هذا التناوب والتركيب العلائقي هو ما يعطي للسرد حيويته وطاقته، ومن ثم ما يبعده عن الرتابة والسكون. وهناك أمثلة أخرى تنحو المنحى ذاته، وإن اختلفت وضعية السرد وعلائقه. لكننا نكتفي هنا بهذا القدر. أما الأمر الآخر والثالث الذي يرتبط بسلوك الشيخ، هو حرصه على إكمال البنائين عملهم، ولا تتضح دلالة هذا الحرص إلا بعد أن ينكشف لنا في الفصول الأخيرة من الرواية الرابط القوي الذي يقيمه السرد بين عملية البناء من جهة وإخفاء معالم الضريح داخل المسجد من جهة أخرى، قبل أن يحل السلطان المهيب ضيفاً على العثمانية. إن تقنية الخفاء والتجلي هنا هي تقنية شعرية بامتياز؛ حيث أفسحت للسرد أن يقوم بوظائفه الشعرية على أكمل وجه، فشخصية فيصل المطوق عنقه بتميمة بعدما كاد يموت، وهو رضيع بين يدي والدته، لولا الشيخ الذي طلب منها أن تتركه وترجع لأخذه بعد يومين، الرواية هنا لا تخبرنا، هل مُرر فيصل على الضريح أم اكتفى الشيخ بالقراءة عليه؟(يتبع).