تتوجه الذاكرة إلى ماضٍ كان فيه ما يردّ إليه، وتربط أهله بأحياء يعيشون الحاضر، وينتمون إلى ماضٍ كان لهم. وقد يكون استمرار الماضي في الحاضر عادياً، يتجلى في مكان موحّد استقر فيه أهله. غير أن هذا العادي خاصم الفلسطينيين، منذ النكبة، أبعدهم عن ماضيهم، وفرض عليهم «الإقامة في اللاإقامة»، إذ في تذكّر الماضي ما يرهق الروح، وسمح للإسرائيليين بالحديث زوراً عن «أملاك الغائبين»، فإن بالغوا في التزوير وصلوا إلى «أملاك مهجورة». ردت الفنانة الفلسطينية أميلي جاسر على «اختراع الوقائع الفلسطينية»، بذاكرة فنية، تتسلل إلى الماضي وتستعيد حقائقه، قائلة إن الفلسطينيين غيّبوا ولم يغيبوا، وهجرّوا عن ماضيهم ولم يهجروه. على جدار، في أحد شوارع عمّان، كُتب باللون الأسود على مساحة بيضاء: «خدمة للعلم والأدب أقدم هذا الكتاب النفيس هدية لمكتبة مدرسة الذكور الابتدائية في عكا. كاتب إدارة المعارف - عكا - حنا موسى - 10 آذار (مارس) 1942». ليس في إهداء الكتاب النفيس ما يثير الفضول، فما يثيره ماثل في التذكير بإهداء «قديم»، وفي ترحيل صفحة الإهداء من عكا إلى مكان في عمّان. يعقب الكتابة، وعلى مقربة منها، مستطيل أسود أنيق حفر عليه: دارة الفنون - مؤسسة خالد شومان الثقافية، التي تحتضنها بدفء كبير الفنانة سهى شومان، تأتي بعده صورة وجه واسع العينين، تمتدان في الفضاء - وجه أميلي جاسر -، وقد كتب تحته: «نجمة بعيدة بعد النظر عن عيني. وقريبة قرب العين مني». جملة هي عنوان المعرض ومعناه. في القول الصوفي الذي يوحد بين القريب والبعيد ما يضيء «إهداء الكتاب» الذي «جاء» من عكا إلى دارة الفنون، وقطع مسافة عمرها 90 عاماً تقريباً. وما يحكي أقدار «الذاكرة المنهوبة»، ذلك أن حكاية الكتاب المهدى من حكايات الكتب التي نهبها الصهاينة بعد الاحتلال من منازل ومؤسسات الفلسطينيين. فقد نهبوا ما يقارب ثلاثين ألف كتاب، منها ستة آلاف فهرست في المكتبة الوطنية اليهودية في القدس تحت رمز A.P (ممتلكات مهجورة). قامت جاسر، وعلى مدى عامين، بتصوير الكتب سراً بواسطة هاتفها النقّال، وأعادت طباعتها وعرضتها في عمل عنوانه «ex Libris» 2012 – 2010. عرضت بعض الكتب المنهوبة كجداريات بأماكن عدة مثل نيويورك (2014)، وكاسل في ألمانيا (2012). وثلاثة نماذج منها في معرض دارة الفنون الذي امتد من 4 تشرين الثاني(نوفمبر) 2014 إلى 23 نيسان(أبريل) 2015. في عناوين وصفحات وصور الكتب المنهوبة، التي «تسلّل» إليها «هاتف نقال»، ما يفضح عنف النهب الإسرائيلي للذاكرة الفلسطينية الذي اقتاد كتباً عربية من القدس وعكا وحيفا واللد إلى «المكتبة الوطنية الإسرائيلية في القدس» وقاد أصحابها إلى المنفى، كما لو كانت الكتب «المعتقلة» قد غدت جزءاً من ذاكرة الاحتلال. كان النازيون يحرقون الكتب، أما الإسرائيليون فيحكمون عليها بالسجن المؤبد، فهي لن تعود إلى أصحابها ولن يعود أصحابها إليها، وعلى الطرفين أن يلوذا باغتراب فرضته إرادة الغزاة. وفي اعتقال الكتاب ما يحجب «في شكل موارب» مجتمع القراءة الفلسطيني، الذي كانت تتكامل فيه أسماء المؤرخ عارف العارف والمربي خليل السكاكيني وابنه «سري»، الذي رحل قبل أن يرحل والده، وأسماء قراء عاديين كانوا يشترون الكتب ويهدونها إلى مؤسساتهم الوطنية: «هذا الكتاب يخص صاحبه فتح الله سعد اشتراه من ماله غرة آذار 1892 - هدية إلى غرفة تجارة عكا - 30/8/1940». تستحضر الكتب المعروضة على أربعة جدران واسعة، مناخاً ثقافياً فلسطينياً «من الماضي»، انفتح على ثقافته العربية. كتب كأنها أصوات جريحة، أو شواهد على قبور لا ترى، وهي في صفحاتها الصفراء مجلى لاستبداد الأزمنة. تقع عين المتفرج على كتاب «العواصف»، الذي اقتناه نقولا الديب من حيفا عام 1923، و «كليلة ودمنة»، الذي قرأه ذات مرة أسعد الشقيري في عكا، و «مصرع كليوباترا» لأحمد شوقي من «مكتبة القدس للشبان المسيحيين». عبّرت أميلي جاسر، التي تنظر إلى نجم لا تراه، عن الماضي وفاعلية الذاكرة الفنية، وبرهنت أن نهب الكتب لا يفضي إلى نهب الذاكرة. فالكتاب الفلسطيني «الماضي» خرج من أرشيفه المظلم وعاد إلى الحاضر، محاولاً، بناء زمن فلسطيني مستمر. فمثلما أن الذاكرة هي ضمان وجود الماضي فوحدة الماضي والحاضر ضمان وجود «الذاكرة الجماعية الوطنية»، التي تستعيد «الكتب المنهوبة» بوسائل مغايرة. هكذا يصبح الفن عنصراً في إعادة قراءة «التاريخ الوطني»، يحاور الماضي بوعي من الحاضر، فالهاتف النقال الذي لازمته إرادة مبدعة، أنطق، بعد ستين عاماً، أطيافاً فلسطينية اعتقلها الإسرائيليون عام 1948. يقترب هذا الفعل من تصورات فالتر بنيامين في دراسته الشهيرة: «إعادة إنتاج العمل الفني في زمن الآلة»، حيث في التقنية الحديثة ما يوسّع حدود الفن كيفاً وكماً، يضيء اللامرئي ويعطي المرئي دلالات جديدة. لم ينسَ بنيامين، الذي كان يحلم بتمرد الأحياء والأموات، أن يؤكد وحدة الفني والسياسي: «لا وجود لنزوع فني صحيح إلا بنزوع سياسي صحيح». تسلحت «أميلي» بهذا النزوع في شكليه، وحوّلت «الهاتف النقال» إلى إرادة مقاتلة. وما عملها الفني (عمل فيديو) «عبور سرده» - 2002 إلا ترجمة مضيئة لتكامل الوسيلة الفنية والوعي السياسي. فهي في هذا العمل تصور مشوارها اليومي من رام الله إلى جامعة بير زيت، مروراً بحاجز «سردة» الذي أقامه الإسرائيليون. بدأ العمل بكاميرا تصور خطواتها أثناء عبور الحاجز، صادرها الإسرائيليون. بعدها أحدثت أميلي ثقباً في حقيبتها ووضعت آلة تصوير تسجّل «عذاب الحاجز» وعنف الإجراءات الإسرئيلية. بعد نهب الأرض و»الذاكرة» تأتي مصادرة حركة الفلسطيني في وطنه المصادر، التي تتجلّى في معاناة فرد يذهب إلى عمله صباحاً. يكشف العمل الفني عن الفرق بين مهنة المؤرخ، في تعاملها مع الاحتلال، والاقتراحات الفنية. فالأولى تسجل الوقائع والتواريخ والأمكنة، هادفة إلى «معرفة موضوعية»، أو ما يشبهها، مستبعدة الإنسان وأحواله الداخلية، بينما يتوجه الفن إلى الإحساس، قبل أن يحاور العقل، يصور فرداً ويتوجه إلى فرد آخر، في عملية قريبة من «الاستبطان العاطفي» إن صح القول. لذا تحضر إلى جانب «الكتب المنهوبة»، متعلقات شخصية أخرى: بطاقة معايدة ورسم السيد المسيح ورقة شجر يابسة، رسوم وهوامش على الصفحات، أختام تؤكد ملكية الكتب، وهناك آثار فنجان قهوة على صفحات «الكتب المهجورة». طبقات من الذكريات لأشياء انتزعت من أصحابها، وانتزعوا بدورهم من «ماضيهم»: بناء محطة حيفا وفوقها علم، سري السكاكيني يترك إمضاءه فوق كتاب، صورة لتلاميذ في صف (أين انتهوا بعد هلاك المدرسة؟)، صورة مطبعة حمص، غلاف كتاب الجندول في «الأشياء المهجورة»، ما يدل على أنها سرقت ولم تهجر طوعاً: نوتة موسيقية عنوانها: موطني، مهداة إلى كرمة الخالدي (مدرسة الأمة - القدس)، ورقة من كتاب عليها بخط واضح: وطني محضت ثراك حبي الطاهرا وعشقت من صغري هواءك العاطرا تحاور أعمال جاسر المتفرج «بأحوال فلسطينية»، مبتعدة عن الشعارات، ناظرة إلى الإنسان في تجاربه، فلا فن من خارج التجربة، ولا تجربة إلا مقارنة بغيرها، مقتربة من «المفارقة»، أو «الهجاء الساخر»، الذي هو شكل من المقاومة. حاولت ذلك في عمل «السامي المثير» - 2000 - 2002، حيث في «السامي» ما يجمع بين اليهودي والفلسطيني، وحيث في الرأي الأميركي ما ينسى الفلسطيني ويقصر صفة «السامي» على اليهودي وحده، كما لو كان في الفلسطيني ما يلوّث «السامية العتيدة» ويلقي عليها الغبار. طلبت أميلي، التي عابثت «السامي المثير»، من ستين فلسطينياً وفلسطينية نشر إعلانات شخصية في مجلة أسبوعية أميركية، بمناسبة عيد الحب، للبحث عن شركاء يهود حصراً، من أجل عودة مرتقبة إلى «إسرائيل»، كما لو كان الفلسطيني لن يرى وطنه إلا إذا احتضنته يد يهودية. فرضت السخرية السوداء التي تخترق الموضوع إعلانات ساخرة أقرب إلى الكاريكاتور. تبدو الفلسطينية، كما الفلسطيني، في هذا «الإعلان»، الذي هو جزء من الحياة الإعلامية الأميركية، «مادة عادية» قابلة للاستهلاك، فالأولى راقصة فلامينكو ساميّة تود أن تلتحق بساميّ آخر في «أرض الميعاد»، والثاني ساميّ يرغب بسامية تحب العسل والحليب. ليس في الموضوع إلا سخريته، لكنه لا يلبث أن يتكشّف عملاً فنياً مستفزاً، يعتدي على ملكية يهودية، ويحمل أشياء من الخديعة والمؤامرة، وفي استفزازيته تكمن فنيتّه... كان بيتر فايس قد اختار لروايته المكوّنة من ثلاثة أجزاء عنواناً غير مألوف: «علم جمال المقاومة»، مبتعداً عن مسميات تبدأ بعلم جمال العصور الوسطى وتنتهي بعلم الجمال البنيوي، مقترحاً علم جمال غير مألوف، ذلك أن للمقاومة أشكالها المختلفة. في الممارسة الفنية لأميلي جاسر ما يقترب من هذا «اللا مألوف»، الذي يقول «بعلم جمال الذاكرة الجريحة»، التي ترى الفرق بين «الجلاّد الماهر» والضحية التي لا تركن إلى وضع الضحية، راجعة إلى عناصر مستمدة من تجربتها: لا ذاكرة إلا في مواجهة أخرى تريد تعطيلها، ولا فن محوره الذاكرة إلا في آثاره العملية، أي في استقباله الذي يربك بلاغة الذاكرة - النقيض. حال عمل الفيديو «مطار اللد» - 2009 - الذي تتمثل فيه «الذاكرة الفلسطينية الممتدة». يستمد عمل «مطار اللد» مادته من فلسطين التي كانت، ومن حكاية تبعثرت أجزاؤها عام 1948. عرفت فلسطين، في ذلك التاريخ «شركة الطرق الجوية لفلسطين» ومطار اللد، الذي سيصبح عام 1974 «مطار بن غوريون الدولي»، وموظفاً فلسطينياً اسمه إدموند تماري، أوكلت إليه شركة نقليات في يافا استقبال «أميليا إيرهارت»، التي تلاشت طائرتها في مكان ما، قبل وصولها إلى المطار الفلسطيني. أيقظت أميلي صورة المطار كما كان، وأخذت دور الموظف الذي حمل باقة زهور لم يسلمّها لأحد. أنجز فيلم الفيديو، الذي مدته خمس دقائق و21 ثانية، محاكاة ما كان، وأعلن عن تاريخ جماعي مأساوي يقول: كان لنا، نحن الفلسطينيين، مطار ذات يوم في مدينة اللد، نستقبل الوافدين إليه بالورود... استعاد الفن، في الدقائق الخمس، وثيقة قديمة تحكي، بإشارات فنية قليلة، مأساة وطن ومثابرة ذاكرة. إنه التجريب الطليق الذي يعيد خلق الماضي الوطني، محولاً مواضيعه إلى أسئلة، تضع الفردي في الجماعي، وتنتج إجابات صادمة. أعطت أميلي هذا التجريب صياغات متنوعة. في إطار معرض أميلي جاسر، وفي صالة خارج «دار الفنون»، عرض فيلم «تل الزعتر» لمخرجيه الفلسطيني مصطفى أبو علي واللبناني جان شمعون، الذي يعود إلى سبعينات القرن الماضي، وأعيد ترميمه في استديوات إيطالية. و»تل الزعتر»، لمن لا يذكره، مخيم فلسطيني كان «يعيش» على تخوم بيروت - المدينة، وكان فيه لاجئون جربوا حظهم في القتال المسلح، لأنهم عافوا مهنة اللجوء، ولم يركنوا إلى «ذاكرة قتيلة». غير أن ما حاولوه صيّر مخيمهم «مقبرة»، ومختبراً هائلاً للتنكيل بالبشر، إذ جرعة الماء تساوي حياة خمسة شباب، وإذ جسر الانتقال من يوم إلى آخر قتلى وجرحى وأكياس من «العدس الاحتياطي»، في انتظار يوم الدينونة، الذي سيحرق كل لاجئ جاوز الرابعة عشرة. كان للفلسطينيين، مطار، وكان لهم، ذات صيف، مخيم يريد القتال. وإذا كانوا قد هجّروا، ذات عام، وحمل مطارهم اسماً صهيويناً، ديفيد بن غوريون، فإن البنادق المتعددة الجنسية، في صيف 1976، أعفتهم من هجرة جديدة، وحوّلت مخيمهم إلى مقبرة ما هي بالمقبرة، مقبرة جماعية على عجل، تختلط فيها الأجساد بالتراب والبقايا النافلة. مقبرة توجّه إليها الذاكرة المقاتلة تحيّة مغسولة بالدموع. تعاملت أميلي جاسر مع الذاكرة الفلسطينية ورأتها في وجوهها المتنوعة: وجه الذاكرة الممنوعة، الذاكرة المصادرة، الذاكرة الممتدة، الذاكرة المقاتلة، الذاكرة حاضنة للتاريخ، الذاكرة أثر تتلوه أثار، الذاكرة غضب ومعرفة، ... وفي الذاكرة عمل جنائزي متفائل، إنها الوعي النقدي بتدفق الزمن، وهي الفعل المتواتر الذي يؤسس ويعيد تأسيس الهوية الوطنية. يقول بول ريكور: «يفتش المؤرخ عن الحقيقة، بينما يتطلع «مناضل الذاكرة» إلى إحقاق الحق، له ولجماعته، التي غدر بها التاريخ، تأتي العدالة ثم تعقبها الحقيقة». لكن العدالة لا تأتي إذا فقد أصحابها الذاكرة.