الكثير من الباحثين والمراقبين ينظرون إلى الإسلام كعلاج لكثير من المشكلات التي تمر بعالمنا الإسلامي، خصوصاً العربي منه على اعتبار أن العالم العربي وليس الإسلام هو المشكلة، آخذين بالاهتمام مسألة أن المسلمين وعبر عصورهم التاريخية لم يكن لديهم سلطة روحية مهيمنة أو «بابا» يثورون عليه بسبب هيمنته الدينية، كما حدث في أوروبا في نهاية عصورها الوسطى، إضافة إلى أن الإسلام كانت سلطته الزمنية عبر التاريخ مهيمنة على السلطة الروحية، خصوصاً بعد عصر النبوة الذي جمع فيه الرسول (عليه الصلاة والسلام) بين السلطتين الزمنية والروحية، ولهذا فإن فصل السلطتين الزمنية عن الروحية لم يتم التطرق اليه ما جعل الكثيرين من حكام المسلمين، خصوصاً في تاريخنا الحديث والمعاصر، يستغلون الدين لخدمة مصالحهم العامة والخاصة، فأصبح لكل فئة من الحكام أو حتى معارضيهم رجال دين خاصون بهم يصدرون الفتاوى وفقاً للتوجهات الأيديولوجية والمصالح العامة والخاصة من دون الاهتمام أو النظر إلى قضية ما أصبح يحتاجه الإسلام في عصرنا هذا، وأهمها مسألة ضرورة وضع خط «فاصل» وواضح ما بين الدولة والمؤسسة الدينية، أو بمعنى آخر ما بين الواقع التاريخي والمصالح الخاصة والعامة وما بين الأخلاق والفضيلة التي لا يمكن لها أن تحكم وتشيد بناءها إلا على أرضية المدن الفاضلة التي منذ أن رسمها أفلاطون في مخيلته وحتى يومنا هذا لم تجد لها مكاناً عبر تاريخنا الإسلامي سوى في عهد نبي هذه الأمة والخلفاء الراشدين من بعده. عندما فصل مونتسكيو التاريخ والسياسة كعلمين منفصلين عن التصورات الأخلاقية أو الميتافيزيقية على اعتبار أن الدين وعظ وليس حكماً، وحدثت وقتها النقلة النوعية السياسية وتطوراتها الهائلة في تاريخ أوروبا منذ عصور نهضتها، وأصبح العلم هو المكمل للسياسة بعيداً تماماً من الجانب الديني، فإن ذلك يُعد من وجهة نظري خطأً تاريخياً بدأ العالم الغربي يواجه تبعاته السلبية التاريخية منذ أن سار في هذا الاتجاه، وذلك بسبب أن التاريخ والسياسة لا يمكن فصلهما عن الجانب الديني، في الوقت نفسه الذي لا يمكن عملياً أو علمياً أن تنجح قضية دمج الدين بشكل يسمح بتدخله الكلي في شؤون السياسة، وإنما ينبغي الإبقاء عليه مع العلم كخطي دفاع مكملين ويسيران باتزان إلى جانب السلطة الزمنية. تؤسس الأصولية الإسلامية قواعدها على أصالة ماضٍ لكنه لا يكشف عن نفسه تاريخياً بشكل جلي وواضح، وربما يعود ذلك لأسباب قسرية، بدليل أنها أوجدت عبر تاريخنا الإسلامي الكثير من الخلافات والمعارك العسكرية بين مختلف الطوائف والمذاهب والتيارات الإسلامية التي بدأت تنشق منذ ذلك الوقت عن تعاليم الإسلام الصحيحة حتى بات من الواضح – للعقلاء - صعوبة إيجاد ذلك المدى المأمول والواعد، الإسلام فيه كثقافة أو كدين يستطيع التعايش في سلام مع ثقافات شديدة التباين، خصوصاً مع تزايد تشبث الأصولية الإسلامية بالحقيقة التي من خلالها تستطيع الاستمرار في وجودها، ولهذا نرى – مثلاً - المنحرف دينياً يحكم عليه كملحد في ظل النظام الأصولي الإسلامي، وبالتالي فإن أسس تركيبة وجودها الديني والسياسي ستكون حتماً شمولية ومتنافرة مع أي اتجاه للإصلاح أو التحديث لكونها تنسجم مع بعض المراحل التاريخية فقط، أما الإبداع والمرونة أو الميل القوي للمغامرة والتجربة فهي أمور لا يمكن أن يطالب بها المرء في مجتمع الأصولية التي تنقض فيه الأحكام مباشرة ويوصف المرء من خلالها بالزندقة والإلحاد والارتداد عن الإسلام نتيجة السلوك غير المتوافق وكأنها من مظاهر الطبيعة، الأمر الذي يؤدي دائماً إلى فرض الحظر على الاقتراحات أو الآراء الإنسانية المنحرفة من وجهة نظر الأصوليين. إن ممارسات أي حكومة إسلامية أصولية مهما اختلف مذهبها الديني أو الطائفي، إضافة إلى ممارسات أنظمة الأحزاب أو الحركات الإرهابية العنيفة لأية مجموعات إسلامية أصولية، أو غيرها من تلك التي تدعي الاعتدال في الإسلام، لا بد لها أن تدرك أن ممارساتها كافة لا تنتج في النهاية إلا آثاراً وردود أفعال سلبية ومضادة لها من مواطنيها مهما طال بها الزمن أو قصر. فمثلاً: لم يفاجئنا التاريخ بردود الأفعال المضادة للأصوليات المتحجرة في أفغانستان التي بدأت فيها جهود المجتمع الأفغاني المتمدن بالمطالبة بالحفاظ قدر الإمكان على سلوك حياتي «حُر» داخل المدن الأفغانية ضد تحجر أصولية «طالبان»، إضافة إلى سعي المرأة الأفغانية لتحسين وضعها وظروف حياتها من خلال مشاركتها في المحافل الثقافية واستخدامها لأساليب الضغط الدولي كافة لمصلحتها. إن واقع الإسلام المعاصر لا يعدُ بحقيقة توحد المسلمين على كلمة واحدة كونهم أصبحوا أمة متمايزة ومنقسمة ومدفوعة بالتنافس السياسي، فما بين الانتهازيين التقليديين أو الأصوليين المتطرفين ترتفع أيضاً الأصوات المعتدلة المتلائمة مع الحداثة، التي تجد أنه من المستحيل مواجهة القوة بالضعف بل أن من الضروري العمل على إحداث إصلاح ديني وعمليات تحديث مجتمعي داخل كل دولة إسلامية بحيث يجري من خلالها تغيير الأمور بشكل منطقي ومعقول يمنع استمرار الثقافة الإسلامية التقليدية السائدة التي لا تقبل التفكير الاستراتيجي وتستمر في تناقضها من دون وجود أي ثقافة جديدة تقوم على تعديلها، بحيث لا تجعلنا نستخدم الحاسوب أو نشاهد القنوات الفضائية التي يظهر فيها فقهاء عصرنا باجتهاداتهم الفقهية التقليدية التي تلعن التقدم الحضاري ومن أوجده من دون أن تشعرنا تلك الثقافة الجديدة بالخجل من أنفسنا وتجعلنا نفكر جدياً في إجابة عن سؤال مهم: ماذا قدمت الاجتهادات الفقهية الأصولية في مجال خدمة المعرفة والتكنولوجيا لكي تستحق أن تطالب بالتدخل بالكلمة الفصل في مختلف شؤون السياسة المعاصرة؟! أكاديمية سعودية [email protected]