تميزّ الوسط اللبناني في الأيام الأخيرة بالعديد من التحركات في أكثر من اتجاه من زيارة الرئيس ميشال سليمان إلى واشنطن وسورية، إلى زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري إلى كوبنهاغن للمشاركة في قمة المناخ، واستطراداً إلى سورية. في ما يتعلق بزيارة الرئيس سليمان إلى الولاياتالمتحدة فقد اعتبرت بأنها ناجحة على أكثر من صعيد على رغم أن التفاهم «لم يتم على كافة المواضيع التي طرحت»، كما صرح الرئيس باراك أوباما. لكن ذلك لم يمنع الرئيس الأميركي من وصف لقائه بالرئيس سليمان ب «الممتاز»، مضيفاً «أن علاقاتنا محورية مع لبنان باعتباره بلداً محورياً في منطقة محورية». وأوضح: «سنعمل على دعم لبنان ديموقراطي ومستقل وسيد وسنستكمل الدعم العسكري لتقوية الجيش اللبناني». وأشاد الرئيس أوباما بدور الرئيس سليمان في إدارة الوضع في الفترة الأخيرة (إشارة إلى ما سبق عملية تأليف حكومة الرئيس الحريري). هل كانت زيارة الرئيس سليمان لواشنطن حافلة بالتفاهم فحسب؟ في واحد من الأسئلة التي يتم إعدادها لمنح الرئيس الأميركي فرصة للتعليق طرح عليه السؤال من أحد الصحافيين حول سلاح «حزب الله»، فأجاب: «نحن غير متفقين على كل شيء وأننا نصر على تطبيق القرار 1701». وفي معلومات «الحياة» أن ما تولاه الرئيس ميشال سليمان في محادثاته مع الرئيس أوباما يتلخص في النقاط الرئيسية التالية: • أولاً: طلب من واشنطن الضغط على إسرائيل للانسحاب من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وقسم من قرية الغجر. لكن الجانب الأميركي لم يقدم وعداً واضحاً بذلك. • ثانياً: أكد الرئيس سليمان أن «حزب الله» هو حزب لبناني وان السلاح الذي يمتلكه يدخل ضمن عنوان المقاومة دفاعاً عن الحدود اللبنانية. وأن مسألة مصير سلاحه وما ورد في القرار 1559 هي قضية لبنانية أحيلت إلى لجنة الحوار الوطني وباتت في صلب الحوار الدائر حول الإستراتيجية الدفاعية عن لبنان. كذلك أكد لبنان التزامه القرار 1701، لكنه شكا من الخرق اليومي لإسرائيل لهذا القرار. • ثالثاً: بالنسبة الى مسألة تزويد لبنان بالسلاح، فقد حصل الرئيس سليمان على «وعد جديد» باستئناف تزويد الجيش اللبناني ما يحتاجه من الأسلحة، لكن هذا الوعد ليس بتلك الجدية التي تحمل على الاعتقاد بأن الولاياتالمتحدة ستعمل على تزويد لبنان بالأسلحة التي طلبها أو بالأسلحة التي يحتاجها في المواجهة مع إسرائيل. وفهم من هذا المجال ان واشنطن هي على استعداد لتزويد لبنان بعدد من الطائرات وتم الاتفاق على قيام وزير الدفاع الياس المر بزيارة إلى واشنطن مع وفد عسكري في مطلع العام المقبل 2010 للبحث في التفاصيل. علماً أن العديد من الشكوك تحيط بهذا الأمر، لأن العذر الذي تقدمه الإدارة الأميركية لعدم تزويد لبنان بالأسلحة الثقيلة هو خشيتها من احتمال انتقال هذه الأسلحة إلى «حزب الله»، في حين أن السبب الأساسي ولو غير المعلن لرفض واشنطن الإقدام على هذه الخطوة يقوم على عدم تزويد أي دولة متاخمة للحدود مع إسرائيل بأسلحة حديثة ومتطورة. في هذه الأثناء برز السيد جيفري فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون والخبير في الشأن اللبناني للحديث عن المحادثات الجارية بين واشنطنودمشق. ومن ذلك قوله «إن علاقاتنا بسورية طبيعية أكثر من السابق وعلى أكثر من صعيد، وهناك قنوات حوار متعددة قد فتحت، أي أن هناك حالياً حواراً متعدد الجوانب، وهناك زيارات رسمية متبادلة، ولم تعد زيارات رسمية فقط، كذلك لم تعد مثل هذه الزيارات نادرة. هذا عنصر إيجابي ومفيد، والمهم أننا اليوم نتحدث مع بعضنا البعض وليس على بعضنا البعض وهذا أفضل لنا ولسورية وكذلك للبنانيين. وإذا كان اللبنانيون قلقين من ان حواراً قريباً مع سورية نحن بصدده الآن، فان على اللبنانيين ان يعلموا أن حوارنا مع السوريين لن يكون على حسابهم على الإطلاق». وتعليقاً على تصريحات فيلتمان يمكن قول ما يلي: ان الكلام عن التقدم بين أميركا وسورية يمكن البناء عليه وصولاً إلى مرحلة أكثر استقراراً من فترات سابقة شهدت العلاقات فيها الكثير من العواصف والتأزم، أما تطمين فيلتمان من ان الحوار مع سورية لن يكون على حساب لبنان، فهذا كلام مشكوك في صحته، باعتبار ان التجارب السابقة تفيد ان المصالح الأميركية الإقليمية هي التي تحتل الأولية على كل ما عداها من علاقات ثنائية. ذلك ان ما «ستجنيه» أميركا من تفاهمها مع سورية سيكون له دلالات بالغة الأهمية بالنسبة الى المصالح الأميركية وفي أكثر من اتجاه في المنطقة، باعتبار أن سورية تملك الأوراق التالية في أي تفاوض مع واشنطن: لبنان – «حماس» في غزة - والحدود السورية مع العراق وبخاصة في ضؤ اللهجة التصعيدية التي يعتمدها رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي من اتهام سورية بتصدير الإرهابيين إليها عبر حدودها. وإذا ما تمكنت واشنطن من التوصل إلى تفاهم مع سورية في شأن هذه القضايا يبقي لبنان «تفصيلاً جزئياً». ومع ذلك أوفدت واشنطن إلى بيروت مساعدين للمبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط جورج ميتشل هما ديفيد هايل نائب مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، وفرديريك هوف المسؤول عن ملف سورية ولبنان. وتوحي الصفة التي يحملانها أن مهمتهما تتعلق بجولة ميتشل التي لا تزال تتعثر بسبب تعنت رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو. وأحد النقاط الخلافية في هذا المجال إصرار المبعوث الأميركي على تبني وجهة النظر الإسرائيلية من حيث ضرورة القيام بإجراءات تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية ثم تأتي بقية المواضيع، في حين أن المبادرة العربية للسلام والتي أبلغ الرئيس سليمان الرئيس أوباما تمسكه بها تقوم على الانسحاب الإسرائيلي من كافة الأراضي المحتلة إلى حدود ال 1967، ثم تأتي بقية التفاصيل. هذا في اتجاه لبنان نحو الولاياتالمتحدة، فماذا عن تحرك الرئيس سعد الحريري؟ بعد ساعات قليلة من حصول حكومته على ثقة قياسية (121 صوتاً من مجموع 128) توجه الرئيس الحريري إلى كوبنهاغن للمشاركة في قمة المناخ. كما كانت مناسبة للقائه العديد من الشخصيات العالمية، لكن الخطوة المنتظرة هي زيارته إلى دمشق والتي تأتي بعد العديد من التراكمات التي أحاطت بالعلاقة مع دمشق والاتهامات التي وجهت إلى السلطات السورية بالوقوف خلف اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وفي هذا المجال أبدى الرئيس الحريري شجاعة سياسية كبيرة في الفصل بين الجانب الشخصي والجانب العام، وباعتباره ان زيارته لسورية ولقاءه الرئيس بشار الأسد يأتيان باعتباره رئيساً لحكومة لبنان. وكان العمل يجري حتى الساعات الأخيرة للإعداد لهذه الزيارة التي هي أكثر تعقيداً من زيارة الرئيس سيلمان إلى دمشق لتعزية الرئيس الأسد بوفاة شقيقه مجد حافظ الأسد. ويبدو أن الأحزان تقرب المسافات أحياناً وتحد من جفاف وجفاء الخلافات السياسية بقطع النظر عن طبيعتها. وفي هذا المجال لوحظ أن العديد من الأطراف اللبنانيين الذين كانوا على عداء مع سورية من حركة 14 آذار وغيرهم بعثوا ببرقيات التعزية إلى الرئيس الأسد، كما أن البعض منهم طلب موعداً للزيارة، لكن دمشق تباطأت في هذا الشأن وذلك لحسابات معينة، إذ أن الرئيس الأسد لم ينسَ حتى الآن ما أطلق من هتافات بالغة العنف تحمل الاتهامات الواضحة. لكن الظروف الآن تغيرت، وتغيرت معها رهانات زعماء حركة 14 آذار، وفي الطليعة الرئيس الحريري والنائب وليد جنبلاط الذي يستعد لزيارة دمشق بعد قيام الرئيس الحريري بزيارتها. وعندما يسأل متى وكيف سيزور دمشق؟ يجيب: سأزورها على طريقتي. ووسط أجواء التوافق التي يعيشها لبنان هذه الأيام بعد تشكيل حكومة الاتحاد الوطني من غير المستبعد أن يقوم الرئيس ميشال سليمان بدور توفيقي مع الرئيس الأسد تمهيداً لزيارتي الحريري وجنبلاط (الرئيس سليمان التقى الرئيس الأسد الجمعة معزياً)، بخاصة أن الرئيس الأسد يشعر الآن بأنه خرج أو أخرج نفسه من العزلة التي فرضتها عليه بعض الدول القريبة، إضافة إلى الولاياتالمتحدة، لكن دمشق عادت لتكون مسرحاً للعديد من الزيارات لزعماء إقليميين وغربيين، الأمر الذي يعتبره الرئيس السوري انتصاراً لمواقفه، وبخاصة اللقاءات التي جمعته بخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز سواء في الرياض أو في دمشق والتي توّجت المصالحة التاريخية بين البلدين، وكل ما يجري في الفلك الإقليمي يدور في ظل هذه المصالحة التاريخية وتعهد العاهل السعودي بدفن كل الخلافات العربية إلى الأبد. لكن دفن هذه الخلافات يحتاج إلى طرفين أو أكثر لإتمام مراسم الدفن. في كل حال يبدو أن طريق بيروت – دمشق أصبحت سالكة بعد بروز «حركة تصحيحية» من جانب الرئيس سعد رفيق الحريري. * كاتب وإعلامي لبناني [email protected]