هل نجح الكاتب شكري أنيس فاخوري والمخرجة كارولين ميلان في نقل «قضية» السجين الفلسطيني يوسف شعبان الى الشاشة الصغيرة؟ هل بدا المسلسل الدرامي «قضية يوسف» في حجم المأساة الحقيقية التي عاناها هذا السجين البريء طوال خمسة عشر عاماً في الزنزانة حتى سمّي «منسيّ العدالة اللبنانية»؟ هذان السؤالان يلحّان على المتفرج الذي شاهد حلقات المسلسل الدرامي الذي عرضته «المؤسسة اللبنانية للارسال» (ال.بي.سي) وعنوانه «قضية يوسف»، وتابع الصورة «المتخيلة» أو الدرامية لهذا الشخص «الواقعي» الذي شغل المعترك السياسي، لبنانياً وعربياً. فالمتفرج أو المشاهد لا يمكنه إلا أن يقارن بين صورة يوسف الدرامية وصورته الواقعية، لا سيما أن قضية هذا الشاب الفلسطيني تخطت حدود الهوية أو الانتماء والسياسة و «الجغرافيا» السياسية لتصبح قضية انسانية هزّت الوجدان العام. فالشاب الفلسطيني يوسف شعبان أمضى حقاً خمسة عشر عاماً وراء القضبان متّهماً (أو مداناً) بجريمة لم يرتكبها وهي اغتيال المستشار الأول للسفارة الأردنية في لبنان نائب عمران المعايطة عام 1994. وكان على هذا الشاب أن ينتظر قراراً رئاسياً لبنانياً عام 2008 ليستعيد براءته ويخرج الى الحرية. «قضية» يوسف غير العادية كان لا بد لها أن تجذب أقلام الكتّاب الدراميين والروائيين وكان شكري أنيس فاخوري سبّاقاً الى استيحائها في المسلسل الدرامي الذي أخرجته كارولين ميلان. إلا أن «استيحاء» القضية درامياً لا يعني بالضرورة أن العمل الدرامي استطاع أن يتجاوز الواقع المأسوي وأن يلقي عليه ضوءاً وأن يكشف أسراره الخفية. فقضية الشاب يوسف هي مأساة بذاتها، مأساة واقعية حقيقية قد يحتاج تحويلها دراما الى مخيلة واسعة ووعي ثاقب، وإلا وقعت في الميلودراما القائمة على المبالغة والانفعال العاطفي السطحي. وهذا ما سعى فاخوري وميلان الى تحاشيه ولم يوفّقا كثيراً، فبدا المسلسل ميلودرامياً بجوّه العام وخصوصاً من خلال صورة العائلة وتحديداً الأم الدائمة النواح والتي كادت تبدو كاريكاتورية في أحيان على خلاف أم يوسف الحقيقية التي شاهدها الجمهور مراراً على النشرات الأخبارية التلفزيونية. طبعاً يحق للكاتب والمخرجة أن ينسجا الصورة التي يقترحانها للشخصيات والوقائع ما داما وفيين للقضية وأمينين على دلالاتها. وقد حاولا أو لأقل حاول الكاتب أن يحيط القضية الواقعية و «الوقائعية» بمناخ قصصي درامي. فجعل المحامية (نهلا داود) التي تولّت متابعة ملف يوسف زوجة لرئيس السجن (جوزف بونصار)، وهذه مصادفة جميلة وإن بدت نافرة. وقد جعل حياتهما الزوجية الخالية من الأطفال صورة رديفة، ولكن مناقضة، لحياة عائلة يوسف التي تحفل بالأطفال. وبدا مشهد الزيارة التي قامت بها زوجة يوسف وابنته للمحامية في بيتها نافراً جداً ومصطنعاً لا سيما عبر الموقف السلبي جداً و «المريض» الذي ظهر فيه الزوج، مدير السجن. مشهد رئيسي، قاسٍ وميلودرامي في آن واحد. وقد أراد الكاتب من خلاله أن يسبغ على رئيس السجن ملامح «السجّان» القاسي والديكتاتور... وهو ليس هكذا في سياق «القضية» الواقعية. أما الهنة النافرة التي ارتكبها المسلسل فهي فكرة «التورية» (لن أقول المجاز) التي لجأ اليها الكاتب (والمخرجة) وغايتها تحرير القضية من بعديها، المكاني والزمني، أي من بعدها السياسي المفترض أو المعلوم. حمل لبنان في المسلسل اسم «سعفال» والأردن اسم «وردان»، إن لم أكن مخطئاً، وحمل المخيم الفلسطيني (برج البراجنة) والأحياء كما المنظمات المسلحة، أسماء مستعارة تبعث على الضحك، وكذلك فلسطين التي لا يمكن التعامل معها بهذه السطحية. وانسحب هذا «التغريب» على الأعلام وصور الرؤساء والسجن... ولئن حاول المسلسل أن يجعل من عالمه صورة متخيلة عن عالم الواقع، فهو أوقع هذه الصورة في حال من التشوس أو الاهتزاز. فكانت صورة واقعية وغير واقعية، مأسوية وهزلية، أليمة ومضحكة... قد يبرر فاخوري «فعلته» هذه برغبته في الهروب من الشرك السياسي، لكنه تناسى أن الجمهور اللبناني والعربي يعلم جيداً قصة يوسف ويلمّ بتفاصيلها، ولا يمكن الاستخفاف به أو الضحك عليه. كان في امكان الكاتب والمخرجة أن يلجآ الى لعبة أقل هزلاً واقل «بارودية» كما يقال بالفرنسية، وأشد واقعية ودرامية، فلا يغدو نقل الواقع الى الشاشة ضرباً من ضروب «التورية» المكشوفة و «التعمية» الساذجة. كانت تستحق «قضية» يوسف شعبان مقاربة درامية جادة وعميقة، انسانياً وسياسياً ومأسوياً. فقضية يوسف إنها قضية فلسطين التي لا يمكن التعامل معها تعاملاً «شعاراتياً»، هي أيضاً قضية المخيمات الفلسطينية في لبنان التي تحتاج معالجتها الى الكثير من الهدوء والتروي. فمسألة المخيمات هذه ليست مسألة لبنانية صرفة بل هي اقليمية ودولية، شديد التعقيد. وقد بدا الخطاب «الوطني» الذي ألقته المحامية أمام يوسف في الحلقة الأخيرة نافراً وسمجاً وكأن الكاتب أراد عبره أن يستخلص «حكمة» تؤكد الانتماء اللبناني والحرص على لبنان، وهذا أمر لا شأن ليوسف به، حتى وإن التحق باحدى المنظمات الفلسطينية المسلحة. ثم إن الكلام عن الاقتتال الأخوي والأهلي في المسلسل بدا مكرراً ومستهلكاً وسطحياً وبعيداً عن الواقع السياسي الصعب. لكن المخرجة نجحت في رسم جوّ السجن عموماً وبدت جميلة فعلاً لقطة التعذيب الذي خضع له يوسف عبر أداة «البلانكو» الرائجة في السجون اللاإنسانية، وقد رُفع بالسلاسل، وجهه الى الأسفل وقدماه الى الأعلى. وختاماً لا بد من الوقوف عند أداء الممثلين وفي مقدمهم عمار شلق الذي كان بارعاً (كعادته) في لعب شخصية يوسف ومنحها ملامحها الدقيقة وفي عيش لحظاتها الأليمة وفي تلوينها انطلاقاً من وعيه الداخلي بها. ونجحت الممثلة تقلا داود كثيراً في أداء شخصية المحامية المتحمسة لقضية يوسف وهي لم تتوان عن مواجهة السلطة حتى وإن كانت سلطة زوجها «السجان» الذي أداه بمهارة الممثل القدير جوزف بونصار. ولا يمكن نسيان الممثلة يمنى بعلبكي التي أدت دور زوجة يوسف برهافة.