«اعطوني فلسطين حرة، وعندها يمكنني ان أكون مسيَّساً»، بهذا التركيز الكامل، وعلى رغم ضيق الوقت في تلك الغرفة خلف الكواليس في المسرح الوطني في أبو ظبي، وقبيل دقائق من بدء الحفلة الختامية لسلسة فعاليات وزارة الثقافة الاماراتية الخاص ب «القدس عاصمة الثقافة العربية 2009»، بهذا التركيز كان سمير جبران يعرف ماذا يريد، لا يريد ان يكون الآن لا «فتحاوياً» ولا «حمساوياً»، لا يعمل إلا بوجهة واحدة «أريد فلسطين حرة». ففي توقيعه الخاص على الموقع المخصص لفرقته مع اخويه «تريو جبران»، يقول سمير «لدينا معركتان، الأولى مهنية، والثانية هي السلام في فلسطين، أي زوال الاحتلال». فهو وإن رفض ان يكون مسيَّساً بالمعنى الداخلي الفلسطيني، لكنه في الواقع يسيِّس بقوة مسيرته الفنية، التي يريدها كاملة النجاح من اجل فلسطين. حققت فرقة «تريو جبران» حتى اليوم، ما لم تحققه أي فرقة عربية في اوروبا سابقاً. وسجلت احدى اسطواناتها «مجاز» أعلى المبيعات في اوروبا. ومما لا شك فيه ان الفرقة المؤلفة من الإخوة الثلاثة الذي يشتغلون سوياً على العود، معروفة أكثر عالمياً وفي اوروبا تحديداً أكثر مما هي معروفة عربياً. يذكر أنه من المفارقات ان الفرقة جالت في مدن العالم، لكنها منعت من دخول العديد من المدن العربية لأن أعضاءها من «عرب اسرائيل». فهم الإخوة الثلاثة سمير (1973) ووسام (1983) وعدنان (1985). ولدوا جميعاً في الناصرة، وورثوا عن ابيهم «جبران» صانع الأعواد، الشغف بالعود. لكن وسام عدا عن عزفه للعود، درس صناعة الآلات الوترية ونال جائزة المعهد الايطالي الذي تخرج منه، وهو اليوم يصنع أعواد الفرقة بنفسه. لكن في أي حال فإن الفرقة نفسها، وكما قال سمير ل «الحياة»، «لا تسعى الى الجمهور العربي ولا الجمهور المتعاطف مع القضية الفلسطينية، فهذا من المفترض ان يكون مكانها البديهي، ولكنها تسعى لافتتاح اراض اخرى غير موطوءة، أي ان تصل الى اولئك الذين لا يعرفون شيئاً عن فلسطين وقضيتها، يأتون إلى الحفلة ليستمعوا إلى موسيقى جميلة، فيتعرفوا الى فلسطين». الاسطوانة الجديدة «ظل الكلام» صدرت باللغتين الفرنسية والالمانية، ومنها اشعار الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش التي عملت عليها الفرقة. فجاءت المقطوعات اما من وحي اشعاره، واما مترافقة مع صوته. وهو مشروع كان اتّفق الإخوة عليه مع درويش قبيل رحيله، هو الذي كان «عراب» هذه الفرقة، وقدمها في العالم، حيث رافقته في اكثر من امسية شعرية له. «قبل محمود درويش رافقنا الشاعر الراحل توفيق زيّاد والحبيب سميح القاسم، واخيراً درويش، وبكل أسى وألم وحب لكل الشعراء. لكن بعد وفاة درويش لن نعزف من شعر احد، لقد افترسنا...». إنه «الاب الروحي» الذي رافق الفرقة 12 سنة كما يقول، ومنذ رحيله والفرقة تقدم سلسلة حفلات في المدن العربية والعالمية ل «ظل الكلام» تكريماً له. وعلى رغم ان الحفلة التي لم يُروج لها كما ينبغي في أبو ظبي، وعلى رغم عدم اكتمال نصاب قاعة المسرح الكبير، إلا أن الفرقة (المؤلفة من الإخوة الثلاثة ويرافقهم بشار نجل الموسيقي مارسيل خليفة على الآلات الايقاعية)، قدمت حفلة «مخلصة» كالاخلاص التام لذكرى محمود درويش. عزف الأربعة بروح عالية. انفعلوا وارتجلوا، وقدموا تحية لبشار الذين تركوا له الوقت للحظة ارتجال ايقاعية، عالية النبض، تركوا فيها آلاتهم واتوا اليه، فشاركوه الايقاع. وكرموه أيضا بغناء «احن إلى خبز أمي». ثم عادوا جميعاً بهدوء وخفر إلى آلاتهم، وعزفوا مرة أخرى بانتظار صوت درويش الذين رافقوه غالباً وصعدوا وهبطوا معه على امتداد الامسية، «أمشي، أهبط، أركض، أصعد، أنزل أصرخ...» (من قصيدة لاعب النرد) و «انتظرها بكوب الشراب المرصع باللازورد، انتظرها على بركة الماء حول المساء....». ثم «أحبك خضراء» (مرة اخرى لاعب النرد). واخيراً الجدارية، هذه التي تركت فيها الفرقة نفسها الى مزيد من الارتجال، الذي ينضج حفلة بعد أخرى، وكأنها قصيدة أبدية لا ينتهي تأويلها كما لا ينتهي الشغل الموسيقي عليها. وفي الختام وبعد ذلك التصفيق الذي طال والهواتف النقالة التي أضيئت طوال الحفلة لتخطف الذكرى، عاد سمير ليترك توقيعاً أخيراً يشبه التوقيع في موقعه الالكتروني، وليعزف «حاصر حصارك» ويقولها صراحة بصوته حتى تكون أكثر وضوحاً «فإما ان نكون أو لا نكون». وطلب خلال الحفلة التي حضرها ممثلون رسميون عن وزارة الثقافة الاماراتية والسفارة الفلسطينية، ألا تحصر القدس عاصمة للثقافة في عام واحد، بل ان تترك حتى «تعود المدينة إلينا». ففلسطين كما قال ل «الحياة» قبيل الحفلة، «كحبة السمسم، التي تبدو ميتة منذ عام 1948، هذه الحبة التي اعطاني اياها جدي، في عام 2003 زرعتها في قطنة وماء، فنبتت»، وإن عاشت فلسطين اليوم ظروفاً قاسية وتشرذمات، الا انها حية، ستنبت كما نبتت حبة السمسم. وفلسطين كما يقول ستعود بالنضال وبالمقاومة، المقاومة الثقافية «هذا السلاح الناعم» كما سماه وأضاف: «فلنكن متفوقين انسانياً، نحن كذلك، ولنحشرهم في قوتهم الهمجية». فهذه هي الطريق التي يفضلها في المقاومة، لأنها تشبه الفلسطيني أكثر. ويعتبر انه «حتى المرأة التي تخرج إلى شرفتها من دون خوف من رصاصة تثقب قلبها هي مناضلة... «على كل منا مسؤولية، وعلى المثقف مسؤولية أكبر ايضاً».