{ عبَّرت الشاعرة والكاتبة السعودية هدى الدغفق عن خيبتها الكبيرة في ما يخص التلقي الذي تجده متواضعاً، على رغم الزخم في النشر، مشيرة إلى أن الكتاب الجديد لم يعد مغرياً بما يكفي للاحتفاء به. وقالت الدغفق في حوار مع «الحياة» إنها ليست ممن يسعون إلى الترويج لكتبها، مؤكدة أن ما تحرص عليه في هذه اللحظة الراهنة، هو ملاحقة ما في رأسها من أفكاره، من دون توقع متلقين. وأوضحت الدغفق أنها اكتشفت يتمها على الصعيد التلقي والإبداعي باكرا، فهي تنتمي -كما تقول- إلى عائلة لا علاقة لها بالأدب، إضافة إلى انتمائها إلى جيل أدبي واجه كثيراً من حركات التطرف والنكبات الإبداعية. إلى نص الحوار: بعد هذا المشوار.. كيف تجدين تجربتك؟ ماذا كنت تتوقعين من أي كتاب يصدر باسمك؟ - سأظل أشعر بكثير من القلق فكلما اقتربت من الإجابات تغيرت بتغير أسئلتي، وبغض النظر عن نوع الإجابة الإبداعية سواء أكانت شعرية أم سردية، فالركض يستمد انطلاقاته من التآزر بين الفنون دون النظر إلى نوعها فما لم أستطع استكماله في الشعر يحضر في السرد وما لم يحضر في السرد يتشكل في ورقة بحثية أو مقالة أدبية أو رأي تعبيريّ.. وهكذا فالمهم هو التعبير الحر. لا أخفيك بأنني لم أعد ألقي بالاً لكيفية استقبال كتاب جديد طبعته للتو ليس لثقتي الكبيرة بما نشرت من تجربة بل لخيبتي الكبيرة في التلقي المتواضع حالياً مع زخم النشر والتصفح الإلكتروني فلم يعد الكتاب الجديد مغرياً بما يكفي للاحتفاء به، كما أنني لست ممن يسعى إلى الترويج لذاته، ربما كنت قبل سنوات أسعى، إلا أن ما أسعى إليه الآن هو أن ألاحق بما في رأسي وأتواصل معه لحظة بلحظة أكتب وأكتب وأنشر، من دون أن أتوقع كمية معينة من المتلقين، فلم يعد يشغلني ذلك الأمر، ولا أعلم السبب حقيقة، إلاّ أن ما يحتل تفكيري من تفسير لشعوري هو توقعاتي المسبقة بأن العالم الافتراضي سرق منا نحن الكتاب والمبدعين أغاني الفرح الطويلة بالمتلقي، وأضحت مقاسات فرحنا مخنوقة بتغريدة أو ضغطة زر تعبر عن العجاب أو أيقونة بملامح باهتة، يمكن أن تأولها بعدة تأويلات. ماذا يعني خروجك من دائرة الشاعرة إلى أفق أوسع؟ - على أنني لا أركن إلى التصنيف، إلا أنني أعطيه كثيراً من الاهتمام، وأحاول اكتشاف افتراضيات جديدة في سماته. وعدم ركوني إلى التصنيف يتأتّى من حاجتي الكاملة إلى استيفاء أفكاري بأساليب فنية وإبداعية متنوعة ومختلفة، فقد اختبرت قدراتي الإبداعية ومرنتها على الكتابة بشتى الأساليب والمشاركة في شتى المجالات الفكرية والثقافية والأدبية ووجدت تشجيعاً وقبولاً من المتلقين فتقدمت وأقدمت بخطا راسخة ومتزنة. انطلاقا من قناعتي بأن ما لا يفتتن به الشعر يتلذذ به السرد وما لا يلفت نظر السرد تدهش به الشذرة وهكذا، ويحضرني في ذلك كمثال من الوطن العربي الشاعر عباس بيضون والروائي خليل صويلح ومن الخليج هناك قاسم حداد. هل تخشين صمت الشاعر؟ - في الأساس ليس لدي شاعر بل لدي شاعرتي وهي ذاتي، ولا أخشى الخسارة مطلقاً، فلدي تصور بأن ما قد تخسره لا يؤول إلى فناء بل إنه نبوءة بولادة جديدة. هذا ما يتقن إغوائي فيه فلسفة الوجود والتكوين وتربح. منذ أول نص لي تحررت من الأبوة حتى للفكرة ومعتقداتها، فلا يقين مطلق لدي، بل هناك تحول مستمر، ولاسيما في الشعر. كثيرة هي الأسماء الشعرية الجديرة بالاهتمام بين شبابية وغيرها، لذا لا خشية لدي من فقدان اسم فهناك آخر يولد بدلاً عنه أكثر امتلاكاً لأدوات الكتابة منه. حتى الإبداع يورث لا شعورياً. كيف وجدت صوتك عند الآخر؟ - اكتشفت باكراً أنني يتيمة تلقياً وإبداعاً، إذ انتسب إلى عائلة لا علاقة لها بالأدب، كما أنني انتميت إلى جيل أدبي هو جيل التسعينات الذي واجه كثيراً من حركات التطرف والنكبات الإبداعية العالقة بمثلبة الحداثة في نظر بعضهم، ويكفيني أنني أعني ما أقوم به وأثق بذاتي بشكل ممتاز، فهي لم تخذلني حتى اللحظة. ومن ناحية أخرى لست ممن يتحرق لرأي متلق على النقيض من رؤيتي، بل إنني أتقبل أي رأي له علاقة بالكتابة كيفما أتى ذلك الرأي، فحساسيتي ليست من التلقي، وحين أبدأ بمشروع فأتهيأ بشكل كلي لرعايته والعناية التامة به وبشكل جاد، قد يكلفني كثيراً من العزلة والوحدة والغياب الذي لا يتفهمه بعض من حولي. ما أثر التقنية في المشهد الشعري؟ وكيف تستقبلين تجارب من فضاء افتراضي؟ - للتقنية تأثيرها الشعوري واللاشعوري في الإبداع وأدائه، فالتقنية سخرتنا لها، سواء شئنا أم أبينا، كما أنها قولبت طريقة وأسلوب ونموذج الكتاب، كما هو حاصل في «تويتر» بحدود 140 حرفاً مثلاً، هذا التطبيع الرقمي ضخ لدى بعض الكتاب والمبدعين طاقة التركيز ودرَّبهم على قدرة التكثيف اللغوي بأقل الكلمات، وفي مقابل ذلك تنفست خلايا المخيلة حرية التصور والتقدير والتحليق في فضاءات التأويل اللامحدود بالرقمي، بالنسبة إلي، فالتقنية أضافت إلى المشهد الشعري إمكانات مذهلة ومدهشة، إذ تمكن المبدع من رسم خريطة مجهرية لونية وفضائية وربما معرفية للون ومناخ ومكان وحلول خزانته الإبداعية ومصادر إلهامه، فاقترب للمتلقي مفسحاً له مشاركته في جمجمة الخيال الشعري. إن بعضهم يتصور أن الشاعر الذي يكتب قصيدته في حضرة العالم الافتراضي هو شاعر تفاعلي موقت سريع الزوال مثل أيقونة تعبيرية أو رابط تشعبي مزدحم بالعناوين، والعكس هو الصحيح، فالشاعر الافتراضي هو الشاعر الورقي ذاته إلاّ أن مسودة الكتابة وقلمها استبدلت بالماوس والكيبورد. هناك أصوات شابة أحدثت وجوداً في شبكات التواصل الاجتماعي لتسجل جيلاً لافتاً.. كيف تجدينها؟ - أزعم أن تلك كائنات قليلة الصبر قصيرة العمر والحياة، وهي إلى زوال، وفي مقابلها هناك مبدعون شباب يحلقون بجنون إبداعي منتظر، ربما يفوق كثيراً مما أنتجه كتاب وأدباء معروفون. قد تمر الكتابة بمحنة واختبار كونها أضحت أداة مستهلكة يستعملها غير أهلها، وفي مقابل ذلك هناك محاسن أخرى لشبكات التواصل التي كشفت عن جيل من المبدعين الشباب، وبدت فاعلية التواصل مثرية ومحفزة لكثافة الكتابة وحضورها وشفافيتها. كيف تقيمين تجربتك في تقديم تساؤلات فلسفية وملحة عبر آخر إصدار لك؟ - على رغم أن الحوار لزمني منذ سن مبكرة جداً، إذ اقتحمت الصحافة من خلال حوارات تدريجية في الصحف المحلية ثم العربية كصحيفة «الحياة» وصحيفة «الوقت» البحرينية. الكتابة في غير الشعر ناحية أخرى تعويضة وقدرة يمتلكها الشاعر أكثر من غيره ممن يكتبون في الحقول الإبداعية الأخرى؛ لأن الشاعر يمسك بأشد مشارط الكتابة رهافة وحدة، وفي السابق هو من مصادر اللغة ومراجعها؛ إذ أخذ ثلث اللغة الفصحى عن الشعراء؛ لأن الشعر مكثف ومختزل وممتلئ على رغم ذلك فهو صندوق من الأفكار والمعاني والمفردات والأساليب، أعود إلى القول.. السرد والحوار بشكل خاص هو إشباع لجانب الحوار الذي أعشقه كثيراً، ولكنه يتجاوز طرائق الحوار الصحافي إلى ملاحقة الفكرة بخصوصية ودقة، وهو ما لا يتوافر في الحوار الصحافي، الذي يمر سريعاً من السؤال ويقطف برعم إجابة فحسب ولذلك جاء كتابي «أشق البرقع أرى» تأكيداً لما كنت أشتغل عليه في الخفاء وأحبه، وهو كتابة السيرة واليوميات. ولم أزل أقتنص لحظاتي للكتابة السيرية باستمرار. أما في كتابي «هيستيريا الافتراض» فكانت هناك ملفات تحلل الفروقات بين مستخدمي الشبكات المحليين والعرب مثقفين وغيرهم وكيفية التعامل مع أدوات العالم الافتراضي، كما أن في الكتاب سيرة رقمية شخصية واعترافات افتراضية، إضافة إلى توافر نماذج مقارنة إحصائية عربية حول مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي في الخليج ولاسيما السعودية. ولعلك بسؤالك هذا تجرح وتعالج بالأداة ذاتها مواضع كثيرة تفسر اتجاهي إلى الحوار الفلسفي، فنصوصي الشعرية تحمل النفس الفلسفي بشهادة نقاد كثر ومتلقين. بعد تركي للعمل الصحافي وتعمقت في اشتغالي على أدواتي الكتابية والفكرية في «فلسفة المستقبل» تنوعت المحاور في ما يخص واقع الفلسفة في الخليج من خلال مقابلة مفكرين ومهتمين بالفلسفة. ماذا يُنتظر من وزارة الثقافة غير تنظيم الملتقيات وتوجيه الدعوات؟ - من ينتظر دعوة وزارة الثقافة ومؤسساتها لن يتقدم خطوة، فالدعوات أضحت مغرقة بالشخصي مدعومة بالعلاقات خارج فكرة وحق وقيمة النتاج الأدبي والإبداعي الوطني، حتى الجوائز الثقافية الأدبية من جائزة كتاب العام وجائزة الثبيتي وعواد، وكلها لا تخلو من المبالغة والمجاملة ومراعاة حقوق الجار وذوي القربى وأصحاب المناصب وما شابه ذلك. تلك الرؤية ليست للمبدع بالتأكيد، إذ أفسد مؤسساتنا الثقافية سيطرة ذوي الشهادات الأكاديمية واستيلاء المزاج الجامعي على المزاج الأدبي بتدخل أساتذة الجامعات والأكاديميين وتمكينهم من إدارة تلك المؤسسات، فمجدوا شأن البحث العلمي والنقد على حساب الإبداع وأهله. وكأنه لا يوجد أفضل منهم لإدارة شؤون الأدب والثقافة، مع أن التجارب الأدبية العربية والعالمية الرائدة والناجحة كانت تدار بمزاج واقتدار المثقف والمفكر. ماذا تعولين على دور النشر ومؤسسات التوزيع العربية؟ - لا أعوِّل على دور النشر عربية أو محلية، فالعربي من دور النشر مادي بحت واستغلالي، ولا يمكن أن تنال شيئاً من حقوقك بمعيته. والمحلي لا يجيد تسويق الأدب، بل لا يتحمس لذلك. لكني أؤمن بضرورة أن يبذل الأديب جهداً شخصياً لينتشر بصورته الأدبية التي يراها مناسبة له. في الآونة الأخيرة ومع انتشار التسويق الإلكتروني للكتاب أضحت دور النشر أكثر استغلالاً حيث توهم الكاتب بعقد ولا تعطيه أقل حقوقه وتظل تسوِّق نتاجه لسنوات تفوق العقد المتفق عليه معها ولا تعطيه نسبة من تلك الأرباح.