250 ألف ريال غرامات على الشاحنات الأجنبية المخالفة    مطالبات تحت المجهر.. توسع المجاردة ونطاق عمراني لبارق    تعزيز امتثال القطاع الخاص للتشريعات الرقابية    هيرڤي رينارد: أشكر الجمهور على دعمة ونفاد التذاكر    نائب وزير الخارجية يلتقي وزير خارجية جنوب السودان    مكافآت طلاب عسير 28 من كل شهر ميلادي    2611 بلاغا وحالة إسعافية بجازان    حرس الحدود يحبط تهريب (48) كجم "حشيش" في عسير    جامعة الملك سعود تُطلق مبادرة لاستقطاب طلبة الدراسات العليا المتميزين    7800 مستفيد من المناشط الدعوية بمسجد قباء    رابطة دوري المحترفين تقبل استقالة سعد اللذيذ    النفط يصعد وخام برنت يصل إلى 70.78 دولار للبرميل    رئيس وزراء إثيوبيا يستقبل نائب وزير الخارجية    مدرب الصين: أعرف منتخب السعودية جيدًا.. وقادرون على الخروج من الرياض بنتيجة إيجابية    "هيئة النقل" تكثف حملاتها الرقابية على الشاحنات الأجنبية المخالفة داخل المملكة    الاحتلال الإسرائيلي يعيد فصل شمال قطاع غزة عن جنوبه    التأكيد على ضوابط الاعتكاف وتهيئة المساجد للعشر الأواخر    خالد بن سعود يستقبل قائد حرس الحدود بتبوك.. ويطلع على تقرير "هدف"    لبنان يغلق أربعة معابر غير شرعية مع سورية    دمت خفاقاً.. يا علمنا السعودي    مسجد بني حرام في المدينة.. تطوير وتجديد    نائب أمير جازان يكرّم الفائزين بجائزة "منافس"    مباحثات أمريكية - روسية فنية في الرياض بشأن الحرب بأوكرانيا    نائب أمير مكة يرأس اجتماع «مركزية الحج».. ويدشن الدائري الثاني    إنفاذًا لتوجيهات خادم الحرمين وولي العهد.. وصول التوءم الطفيلي المصري إلى الرياض    رئيس الوزراء الباكستاني يصل إلى جدة    المسار الرياضي.. وجهة رياضية وترفيهية تعزز جودة الحياة في رمضان    "الأرصاد": أمطار رعدية غزيرة وسيول متوقعة على عدة مناطق بالمملكة    رأس الاجتماع السنوي لأمراء المناطق.. وزير الداخلية: التوجيهات الكريمة تقضي بحفظ الأمن وتيسير أمور المواطنين والمقيمين والزائرين    وزير الداخلية يرأس الاجتماع السنوي ال32 لأمراء المناطق    الغياب الجماعي للطلاب.. رؤية تربوية ونفسية    "التعليم" تعلن القواعد التنظيمية لبرنامج فرص    السعودية بوصلة الاستقرار العالمي (1-3)    الاتحاد يعبر القادسية الكويتي في نصف نهائي غرب آسيا لكرة السلة    الأخضر يرفع استعداداته لمواجهة الصين في تصفيات كأس العالم    على المملكة أرينا وبصافرة إيطالية.. سيدات الأهلي يواجهن القادسية في نهائي كأس الاتحاد السعودي    استقطاب كبرى الشركات اليابانية في الترفيه    الخوف من الكتب    «سنتكوم» تحذر من نهب مستودعات برنامج الأغذية العالمي في صعدة.. استيلاء الحوثيين على المساعدات الإغاثية يفاقم أزمات اليمنيين    فيتش: تحسن محدود لمؤشرات البنوك    "الحياة الفطرية": لا صحة لإطلاق ذئاب عربية في شقراء    المملكة تدين وتستنكر الهجوم الذي استهدف موكب رئيس جمهورية الصومال الفيدرالية    نائب أمير منطقة جازان يكرّم الفائزين في مسابقة الملك سلمان المحلية لحفظ القرآن الكريم    قطاع ومستشفى بلّسمر يُنفّذ حملة "صم بصحة"    "خطاب الإنتماء" ندوة علمية في تعليم سراة عبيدة ضمن أجاويد3    ديوانية غرفة تبوك الرمضانية بوابة لتعزيز الشراكات وترسيخ المسؤولية الاجتماعية    16 مصلى لكبار السن وذوي الإعاقة بالمسجد النبوي    الفطر سلاح فعال ضد الإنفلونزا    دعوات ومقاعد خاصة لمصابي الحد الجنوبي في أجاويد 3    440 مبتعثا صحيا وكندا الوجهة المفضلة ب33 %    3 جهات للإشراف على وجبات الإفطار بالمدينة المنورة    موسم ثالث للتنقيب الأثري بالليث    الكشخة النفسية    النقد الأدبي الثقافي بين الثوابت المنهجية والأمانة الفكرية    إقبال على دورات الإنعاش القلبي    تبقى الصحة أولى من الصيام    محافظ الطوال يشارك في الإفطار الرمضاني الجماعي للمحافظة    العلم الذي لا يُنَكّس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تظاهرة الخرطوم كادت تقطع «شعرة معاوية» بين «الحركة الشعبية» و «المؤتمر الوطني»
نشر في الحياة يوم 15 - 12 - 2009

في كل مرة اختلفت فيها الحركة الشعبية لتحرير السودان مع حليفها اللدود حزب المؤتمر الوطني، كان يتم احتواء عناصر الخلاف بالرضا والتفاهم أو خوفاً من مخاطر الشقاق والبعاد. لكن في الأزمة الأخيرة التي نشبت قبل بضعة أشهر بسبب التباين حول عدد من القضايا الحيوية، كان الموقف مختلفاً، إذ أخذ منحى تسخينياً نادراً وبات الفراق وشيكاً بلا رجعة. فقد حاول كل طرف استخدام أوراقه المشروعة وغير المشروعة كافة للضغط على الطرف الثاني، والحصول منه على تنازلات جديدة أو خفض سقف استحقاقات قديمة. ولأن المسافات أصبحت بعيدة والوساطة الأميركية كانت ضعيفة، انفجر بركان الخلاف سياسياً وإعلامياً. ثم نزلت الحركة الشعبية من على شجرة الجنوب إلى قلب شوارع الخرطوم، في إشارة إلى أن معركتها لن تصلح معها مسكنات سياسية. الأمر الذي كشفت تجلياته تظاهرة أم درمان يوم 7 كانون الأول (ديسمبر) الجاري، قبل أن يتم التوصل الى اتفاق بين الطرفين يتضمن 3 نقاط أبرزها يتعلق بتنظيم الاستفتاء على تقرير مصير اقليم الجنوب المقرر عام 2011.
ومع أن الأجهزة الأمنية السودانية نجحت فى تفريق تظاهرة «الفراق»، غير أن تداعياتها ستظل مخيمة على كثير من الملفات السياسية. لأن هناك أزمة ثقة بين شريكي الحكم في السودان بدت مستعصية على الحل، وسط غياب الوضوح والشفافية وغلبة منهج المراوغة والمناورة. فالحركة الشعبية وضعت أمامها هدفاً رئيساً يتمثل في تسوية القضايا المعلقة قبل انتهاء الفترة الانتقالية، وتوفير الأجواء المناسبة للاستفتاء على تقرير مصير الجنوب عام 2011. وحتى يتسنى الوصول إلى هذا الهدف، رأت قيادات الحركة ضرورة التعجيل بإقرار مجموعة من القوانين الخاصة بالتحول الديموقراطي والحريات والسلام، لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وولاياتية نزيهة في نيسان (أبريل) المقبل، كمقدمة أساسية للاستفتاء على تقرير المصير.
في المقابل يحاول حزب المؤتمر الوطني التملص من بعض الاستحقاقات والاستفادة من الغموض الذي يلف عدداً من بنود الاتفاقيات الموقعة وتفسيرها بطريقة انتقائية، خدمة لمصالحه السياسية. وازداد الموقف قتامة بعد تلويح المؤتمر الوطني بإصدار قوانين يمكن أن تؤثر على مصالح الحركة الشعبية ومساحة حركتها السياسية، أو تفرض على أنصارها قيوداً أمنية، مستفيداً من امتلاكه غالبية برلمانية تمكنه من إجازة بعض القوانين المفصلية في الحياة السودانية. والتحكم في المفاتيح الأساسية للعملية الانتخابية المقبلة. وبدا ذلك واضحاً في نتائج الإحصاء السكاني الأخير التي لقيت اعتراضاً وتشكيكاً من جانب أطراف في الجنوب والشمال والغرب أيضاً. وتزايد صخب الاتهامات للمؤتمر الوطني بتعمد وضع مطبات وعثرات للحركة في الجنوب، من طريق تفجير نعرات قبلية خامدة وفتح ملفات حدودية غير محسومة.
عندما وصلت المسألة إلى ما يشبه الفراق، بدأ كل طرف يحشد أنصاره ويعيد ترتيب أوراقه. الحركة الشعبية استغلت حالة الوهن الذي تعاني منه غالبية القوى السياسية في الشمال وسعت إلى استمالتها وتجديد مكونات التحالف السابق، تحت راية التجمع الوطني الديموقراطي المعارض. وبالتالي تأكيد نفوذ وسيطرة الحركة على قطاع سياسي ينتمي إلى الشمال، خصوصاً أن هذا القطاع لديه ميراث وحاضر سلبي تجاه المؤتمر الوطني. ورأت الأحزاب والقوى التقليدية في السودان أن اللحظة مناسبة للاحتماء خلف ظهر الحركة. أولاً، باعتبارها الرقم الضخم والقوة الحقيقية المنافسة للمؤتمر الوطني، الذي يعمل لها ألف حساب سياسي وأمني. وثانياً، لأنها شريكة (نظرياً) في الحكومة المركزية والتعاون معها يضعف قدرة شريكها (المؤتمر الوطني) على مزيد من التنكيل بالمعارضة الشمالية. وثالثاً، لأن الحركة شاءت أم أبت مسنودة سياسياً من قبل بعض القوى الخارجية الراغبة في إتمام تنفيذ اتفاق نيفاشا والخروج به إلى بر إجراء استفتاء يفضي في الغالب إلى انفصال سلمي للجنوب.
إذا كانت الحكومة السودانية تمكنت من فض تظاهرة الإثنين في أم درمان، فإن الدروس التي تفرعت منها كثيرة ويصعب تجاوزها. وأبرزها، نزول الحركة الشعبية إلى الشارع سلماً. وهذا تقليد غاب أصلاً عن أدبيات الحركة، فبعد توقيع اتفاق نيفاشا اهتمت قياداتها بتقوية أدواتها السياسية وأذرعها العسكرية في الجنوب واقتصر وجودها في الشمال على شراكة الحكم وآلياته، بصورة تسمح بانقضاء الفترة الانتقالية بأقل خسائر ممكنة. لكن النزول هدف إلى توصيل رسائل رئيسة عدة. في مقدمها، الإعلان صراحة بأن الحركة تركت السلاح نهائياً وتطلعاتها للتغيير لن تتجاوز الوسائل السلمية. وبلوغ الغضب من المؤتمر الوطني درجة لا يمكن السكوت عليها، لأن تصورات وممارسات الحزب ستؤدي إلى نتائج وخيمة على الحركة، التي لديها خيارات تستطيع إحراجه بها متى شاءت. وأن أنصارها من الشماليين والجنوبيين في الخرطوم بإمكانهم أن يهددوا المؤتمر الوطني في عقر داره. كما أن التجييش الكبير في العاصمة سيشكك بصورة غير مباشرة في الإحصاء السكاني الذي أشار إلى أن تعداد مواطني الجنوب في العاصمة حوالى نصف مليون نسمة، بينما قدّرتهم الحركة بضعف هذا الرقم تقريباً.
بالتالي على حزب المؤتمر الدخول فى اختبار قوة رغماً عن إرادته. فقد أرادت الحركة قياس مدى صمود أدواته الأمنية وحدود التوجهات السياسية التي يمكن أن يصل إليها، لا سيما أنها لوحت بتكرار هذا النوع من التظاهرات على نطاق أوسع، إذا لم يوافق المؤتمر الوطني على إقرار القوانين المطلوبة. وخطورة لجوء الحركة إلى الشارع والاحتكام إليه في عاملين: الأول، أن هذا التصرف يشير إلى قطع «شعرة معاوية» بين الطرفين، بعد أن ظلت صامدة طوال الأشهر الماضية في مواجهة جملة كبيرة من الأعاصير السياسية. والثاني، التخويف الرمزي من سيناريو التغيير من طريق الشارع وعدم استبعاد هبوب رياح الثورة الشعبية منه.
من جهة ثانية، كان أداء قيادات حزب المؤتمر الوطني مع التظاهرة ومقدماتها يتسم بالقلق، خشية انفلات الأوضاع في العاصمة الخرطوم، التي كادت أن تنسى مشهد التظاهرات الشعبية الواسعة. وخوفاً من انحراف التظاهرة عن مسارها السياسي واتخاذها مسارات أخرى قبلية أو اقتصادية أو حركية. وسوف يظل هجوم حركة العدل والمساواة على أم درمان في أيار (مايو) من العام الماضي محفوراً في الذاكرة الجمعية. لذلك حالت قوات الأمن السودانية دون وصول المتظاهرين إلى مبنى البرلمان لتسليم مذكرة بمطالبهم. وألقت القبض على عدد من قيادات الحركة الشعبية. أبرزهم الأمين العام باقان أموم ورئيس كتلتها في البرلمان ياسر عرمان. لكن سرعان ما أُفرج عنهما.
كشف هذا التعامل عن ثلاث حقائق: الأول، رفض المؤتمر الوطني فكرة الحركة الشعبية في الاحتكام إلى الشارع مباشرة والاتجاه نحو اتخاذ الإجراءات اللازمة لعدم تحويل هذا الطريق إلى خيار حقيقي قابل للتنفيذ. والثاني، عدم وجود تأثير ملحوظ للخيوط التي نسجها المؤتمر الوطني مع القوى الجنوبية المناهضة للحركة الشعبية، والتى كان من أهمها دعم أعمال مؤتمر الحوار الجنوبي – الجنوبي في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي في الخرطوم، فحتى الآن لم تظهر بصمات للفصائل الجنوبية تقول إنها أحد العناصر اللاعبة في الجنوب أو المهددة للحركة الشعبية. والثالث، أن الحكومة السودانية (المؤتمر الوطني) على درجة من الحنكة التي تؤهلها لمواجهة خيار النزول للشارع بالجزرة أو العصا. ففي الوقت الذي استقبل فيه الرئيس عمر البشير قيادات من المعارضة ووعد بحل أزمة القوانين الخلافية، منحت الحكومة المواطنين يوم التظاهرة عطلة لمنع خروجهم واستخدمت قوات الأمن هراواتها ضد المتظاهرين.
الواقع أن القوى الحزبية الشمالية وجدت نفسها قبل وأثناء وبعد تظاهرة الإثنين في موقف لا تحسد عليه. فقد ارتضت أن تكون جزءاً من تحالف معارض فضفاض تقوده الحركة الشعبية الشريك في الحكم، جرى تدشينه رسمياً خلال مؤتمر جوبا الذي عقد نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي، وحضره عدد من القوى السودانية، التي لا يزال بعضها يتردد في الارتماء تماماً في أحضان الحركة الشعبية.
وينبع هذا التردد من خوف القيادات التاريخية للأحزاب السودانية من نتائج الوقوف إلى جوار أو خلف الحركة فى معركتها الإقليمية – السياسية. فالدعم الكامل والتحالف الشامل يعني المشاركة في مسؤولية الانفصال المتوقع حدوثه للجنوب. كما أن الضعف الذي تعاني منه هذه الأحزاب يجعلها تتشاءم في إمكانية الوثوب إلى السلطة في الشمال، عبر حصان الحركة الشعبية أو انتخابات مشكوك في إجرائها بطريقة نزيهة وشفافة. كما أن خوض المعركة الانتخابية بصورة مستقلة ومواجهة الفشل المنتظر سيؤدي إلى انكشاف الوزن الحقيقي لكل حزب.
من جهة ثالثة، عزز تفاقم الأزمة بهذا الشكل الهواجس حيال دور سكوت جرايشن المبعوث الأميركي الخاص للسودان، الذي تنقل مراراً بين الخرطوم وجوبا في محاولة لردم الهوة بين الطرفين. وقد أثار فشله في هذه المهمة تساؤلات كثيرة حول قدرة واشنطن في المساعدة على صمود اتفاق نيفاشا، الذي يظل العنوان الرئيس في معظم جولات جرايشن للسودان. فعلى رغم تزامن تعيين المبعوث الأميركي مع اشتعال أزمة دارفور والرغبة الظاهرة في تسويتها، إلا أن الجهد الواضح لجرايشن انصبّ في جوبا في محاولة لتهدئة القضايا الساخنة بين الشريكين والتوصل إلى صيغة للتنازلات المتبادلة تقود إلى تفاهمات حول الملفات الخلافية.
المشكلة أن لجوء الحركة الشعبية للشارع ستكون له نتائج سلبية على قضايا كثيرة، في ظل ارتفاع درجة السيولة في معظم الأوساط السودانية وتعدد مصادر الأزمات في أنحاء مختلفة من البلاد. وفتحت المسألة أحد احتمالين: إما تكريس القبضة العسكرية في الخرطوم من خلال التيار الراغب في التوسع في القوانين ذات الصبغة الأمنية، أو حدوث فوضى في أنحاء مختلفة، لأن الاحتقان المكتوم يمكن أن يفضي إلى انفلات غير مسبوق. وفي الحالين لا مجال سوى للعودة إلى طاولة الحوار ومحاولة وصل «شعرة معاوية» وهو ما حصل في نهاية الأسبوع في الاتفاق المعلن بين البشير ونائبه رئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديث.
* كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.