تحل الذكرى الخامسة لغياب الشاعر السوري ممدوح عدوان الذي رحل في كانون الأوّل (ديسمبر) 2004. ولعل المختارات الشعرية التي انتقتها وقدمتها زوجته إلهام عبداللطيف وصدرت في سلسلة «كتاب في جريدة»، تعد بحق أجمل تحية توجه اليه في ذكراه هذه. لهذه المختارات وقعٌ مختلف، فمعيار الانتقاء تقصّد تغطية المرحلة الزمنيّة التي تتيح الإلمام بتجربة ممدوح الشعريّة منذ عام 1964 حتى نهاية عام 2004، ما يعني أن التنوّع في مواضيع القصائد – وهو أمرٌ بدهي - قد يغدو أمراً ثانوياً، مُفسحاً في المجال لملامح المشروع الشعري الخاصّ بعدوان، أن تطفو على السطح، لتكشفَ ما شكّلَ في عيني ممدوح أسس كتابة القصيدة وتقنيات تصريف القول الشعري. وبصورة أدق، تكشف المدّة الطويلة هذه، الخيط الخفّي لصنعة الشاعر. ما تراه يكون الهاجس الفنيّ الأكثر ثباتاً في شعره؟ وما نواة المزيج المرهف بين الوعي والإلهام؟ وما حصّة كلّ منهما في الصنيع الشعري؟ يدرك الشاعر بالإطلاق، منذ البداية ما يرغب في اقتراحه شعراً، و «يرى» - بالمجاز - أين يستطيع الإضافة إلى مشهد شعريّ ما في زمنٍ محدّد، ويعوزه تدقيق أسلوبه الخاصّ، وتصويب الوسائل الفنيّة لتنسجم مع قدراته ودأبه في تطويعها، وتدريب قلمه على أصول التنقيح، حذفاً وإضافةً. وفي الجملة، يمكن القول إن العمر الإبداعي لشاعرٍ ما، ليس إلا حصيلة بلورة «أنا» الشاعر طويلاً في علاقتها مع محيطها، وفي انعكاسها في الآخرين، وفي اصطياد الرؤى والأفكار، ثمّ اصطفاء الصالحات من بناتها، لتغدو القصيدة بؤرةً سحرية ذات وجهين – على أقلّ تقدير- : «مشعّ يجذب «أنا» القارئ، وحميمٌ يرفع روح الشاعر وصوته، ليحملا بصمته اللغويّة شعراً». الواقعي ظاهراً يبدو ممدوح وفقاً لهذه القصائد منتمياً «ظاهراً» إلى المذهب الواقعي في معناه الحداثي، بحيثُ تؤدّي الواقعة التاريخيّة دوراً مهمّاً في تحديد وجهة القصيدة. فقصيدة «لقاء عاجلٌ ومفاجئ مع القنيطرة» مثلاً، قد توحي أنها تنضوي بسهولة تحت يافطة الالتزام الشهيرة التي تبطنُ الكثير من القيود، بيد أنّ إدراك ممدوح ووعيه لدور الشعر من جهة، ومعرفته بحيثيات الواقعة التاريخيّة من جهة أخرى، دفعته إلى القول الحميم، فهو لا يميلُ البتة نحو الصوت العالي: «غضضتُ الطرف في صمتٍ/ كأني لا أرى الأيدي تلوّح لي/ ولم أعرف:/ ترى كنتِ السرابَ لنا؟/ أم أنك قد حملتِ بريق ماء النهر/ ففي عينيك كانا توأمين/ مُعكّرين بحمرة من قهر». فالمدينة المحتلّة لا تلزمها البطولات اللفظيّة الواهية، بل تلزمها ألفاظ تبطن الغربة التي تمنع الكلام، لكنها تنفتح على صنوف المعاني، من خجلٍ وعارٍ وأسى، لترسم صورة المدينة: الضحيّة. لا تستأثر القنيطرة وحدها بصورة الضحيّة، فممدوح الذكي تعفّف عن واحدة من أكثر سمات الحداثة الشعريّة إثارةً للجدل: هجاء المدن والعواصم باعتبارها قرينة الشرّ، ونقيض البراءة التي تمثّلها القرية بامتياز، واستطاع أن يرسم صورة «واقعيّة» وحزينة لدمشق وسكانها الذاهبين إلى الحرب: «حين دقّت بابه الحربُ/ وكانت ترتدي أقنعةً من وطنه/ فتح الباب وماشاها،/ فجسم الوطن المرجوّ يدمى خارجَ/ البيت... ضاقت الأرض التي يلبسها في الفقر/ ثوباً وعزاء/ ودمشق اتّسعتْ حتّى احتوت كلّ/ البكاء». فالشعور الوطني في الدفاع عن المكان يخالطه شعور آخر، يبطن القهر والفقر ليوّحد بين المدينة وأهلها، ويرسم الصورة اللاذعة والجريئة: كيف تدافع الضحيّة عن الضحيّة؟ أمّا بردى، فله في المختارات قصيدتان (بردى، وأمام الشيراتون)، تسفران عن وجه ممدوح؛ وفيهما مزيج من الحنان والسخريّة المرّة، فهو يصفُ روح النهر لا مظهره فحسب: «متمهلاً يمشي... وخوف الناس في عينيه/ كالمبضع/ وطحالبٌ في ضفّتيه تمصّ صرخته فلا/ يُسمع... يحمرّ وجه النهرِ في حنقٍ يسير بدمعه/ مترعْ... ويمسّ أرض الغوطة الخجلى فيرتعشان/... وعلى تعرّج أرضها استلقى أسىً/ رمحاً بغير سنان». ثمّ يسخرُ من صورته «القديمة» في الأغاني: «في الشعر غنّى مدنفاً/ فجرى وصفق باسماً/ لاقى الضيوف وأنزل الركبان». ولا تفوته الإشارة إلى «صورته» الجديدة: «يمدّ الشيراتون إليه ظلالاً/ فتقصّ له غرّته/ وتربّتُ فوق الكتفين إلى أن يهدأ/ تخصيه/ تلجمه/... تخفي ذاكرة النهر عن المنشأ». لا يجمّل ممدوح الواقع قطعاً، لكنّه يشحنه بطرائد ماكرة حين ينقله إلى أرض القصيدة. فإذا كان ظاهر القصيدة هو الوصف، فإن باطنها يحملُ رسالة احتجاج ونقد، وهو الأمرُ الذي يُضفي عليها صبغة الالتزام بمعناه الاجتماعي لا السياسي. وفي غير ما قصيدة، يستند عدوان إلى «السرد» في شكلٍ واضحٍ، ويظهر هذا خصوصاً في القصائد/ الهدايا إلى أبيه (وعليك تتكئ الحياة) وإلى أصدقائه (غالب هلسا، عادل محمود، نزيه أبو عفش، منذر خضر). وإن كانتْ هذه «التقنيّة» متواترة الظهور اليوم في الشعر غير الموزون (قصيدة النثر) وتهدف إلى «تبريد» أنا الشاعر وتحييدها، فإنها تختلف لدى ممدوح الذي يميل إلى نوعٍ من الغنائية ولا يميلُ البتة إلى تبريد الأنا ولا إلى تسخينها كذلك. فثمة تأمّل يفتح باب القصيدة ويوّسع مدارها: «كان من الممكن لحياتي أن تكون كافيةً/ وعلى مقاسي/ لولا أنّ خيالي كان يوسعها دائماً/ منذ أن فوجئت بسؤال:/ ماذا تريد أن تكون حين تكبر؟»، الأمرُ الذي ينسجم مع أمرين اثنين: الأوّل هو إخلاص ممدوح للوزن على رغم وجود قليل من القصائد غير الموزونة في أعماله الكاملة، فغالباً ما يكون إيقاع قصيدته مناسباً تماماً لشغفه المحموم في القبض على الوقت وزجره كي يتمهل ولو قليلاً. ولعلّ هذا التزاوج ما بين الإيقاع السريع والسرد يعطي قصيدة ممدوح نكهة السرد المموسق، إن صحّ التعبير، فهو بصمة ممدوح الخاصّة التي قد تبرّر فنيّاً انحيازه إلى القصائد الطويلة نسبياً التي تقف على حافّة الغنائية من دون أن تسبح في مائها، وهو ما يظهرُ جليّاً في هذه «المختارات». أمّا الثاني فيتعلق بسمة السخريّة المحببة في قصائده، وهي سخرية بمذاقات مختلفة؛ فهي مرّة جارحة عند حضور شجون الوطن أو الأصدقاء: «وحاولت أن أستردّك... وسأغسل قلبك من زيف أمجادهم وأعيدك نحوي حليفاً ودوداً/ يا صديقي اللدودا»، لكنها في مرّات أخرى خفيفة مرحة، خصوصاً إن قدح زنادها «الإلهام»: «كلّما غابتْ/ خشيتُ أن تكون قد تلاشت/ وكلّما نامت/ خشيت أن تكون قد ماتتْ». تخفي هذه السخريّة فائضاً من الحنان، أو لعلّها ليستْ إلا وجهه الآخر. وفي الوقت نفسه، فإن هذه السخريّة تبدو في أحايين كثيرة وكأنها ما يسلس القياد لقريحة الشاعر: «ظلّي محتفظةً بهذه الابتسامة/ فهي تناسبك أكثر من الماكياج/ ظلّي ملفعةً بهذه الشهوة/ فهي أجمل من أي شيء تلبسينه/ ابتسامتك/وشهوتك/ تكفيان/ فاقنعي بهما في هذا الغلاء». بيد أن هذه «المختارات» اكتفتْ بغزليّتين اثنتين (لو في الأصابع ذاكرة، إلهام) من غزليات ممدوح الجميلة، فممدوح يبدو عند الغزل ك «وتر ناعم مسحوب من القلب»، وله وجه عاشقٌ، حسّيٌ ملتبسٌ بإباحية يقودها العنفوان، ان يكون الإلهام «سكراً زيادة»، كمزيج نادرٍ للزوجة والحبيبة التي وضعتْ قلبها جانباً، واختارت ب «عقلها» هذه القصائد من مجمل أعمال ممدوح الشعرية التي تربو على سبعة عشر ديواناً.