أفاض الكتّاب والصحافيون في الحديث حول كارثة سيول جدة، وما جرى فيها من مآسٍ وأحزان طالت مئات الأسر شرق المدينة، وما تكبده الأهالي من خسائر بشرية ومادية ضخمة طالت سكان الأحياء المتضررة وما جاورها. وقد كان تفاعل خادم الحرمين الشريفين في مستوى الحدث فأصدر أوامره الكريمة بصرف إعانات فورية لذوي الشهداء، وأمر بالتعجيل بتعويض المتضررين، كما أمر بتشكيل لجنة رفيعة المستوى برئاسة أمير منطقة مكةالمكرمة الأمير خالد الفيصل لمساءلة كل من أخل بالأمانة وقصّر فيها من الأفراد أو الجهات ومحاسبتهم بكل حزم. سأتطرق في حديثي هذا عن حدود المسؤولية القانونية للمسؤولين عن كارثة سيول جدة، والحلول العملية الجذرية التي يمكن القيام بها لتلافي تكرار هذا الحدث المؤلم، ويتضح حدود هذه المسؤولية من خلال استعراض سريع لأبرز المخالفات التي ظهرت في هذه الحادثة ومنها: منح التراخيص لأصحاب المخططات التي تقع في مجاري السيول، ولا ريب أن هذا الخطأ يقع على عاتق أمانة جدة، إذ إن لديها من المصوّرات الجوية والمهندسين الميدانيين ما يكفي لمنع امتداد الإسكان لهذه المناطق الخطرة، على أن هذا لا يمنع من المساءلة القانونية لملاك هذه المخططات الجشعين الذين حرصوا على تضليل الناس ببيعهم هذه الأراضي، على رغم علمهم بخطورة موقعها وتعرضها لمجاري السيول. ترسية مشاريع سفلتة الطرق على شركات تقوم بتنفيذ شبكات ضعيفة لا تنطبق عليها معايير السلامة والجودة العالمية، وهذه أيضاً من مسؤوليات أمانة جدة، إذ إن اللائحة التنفيذية لنظام المنافسات والمشتريات الحكومية تنص في المادة«64»على وجوب وضع شروط ومواصفات فنية دقيقة ومفصلة مطابقة للمواصفات القياسية المعتمدة، أو المواصفات العالمية وذلك للأعمال المطلوب تنفيذها، كما أن نص نظام المنافسات والمشتريات الحكومية لا يلزم الجهات الحكومية بالترسية على أقل العطاءات إلا إن كان هذا العطاء مطابقاً للشروط والمواصفات الفنية الموضوعة، ومن يشاهد طبقة الأسفلت الرقيقة التي تكسو شوارع جدة بكاملها التي وضعت على الأرض مباشرة دون أن تبطّن بطبقة من الأسفلت أو الصخور المدعمة والمساندة لها يكتشف سبب انجراف هذه الطبقة الأسفلتية بسرعة مع أول دفقات السيل بعد أن تحركت وفرّغت الطبقة الترابية السفلية الملاصقة لها، ولا يعفي أمانة جدة الادعاء بأن هذه العيوب ليست من مواصفات الأمانة وإنما هي من الشركات، وذلك لأن هذه الشركات لا تنفذ أي خطوة إلا بعد إجازة مهندسي الأمانة لها، ومع ذلك تظل تلك الشركات المنفّذة متضامنة في المسؤولية عن هذا الخطأ مع الأمانة، وذلك وفقاً لأحكام المادة«48»من اللائحة ذاتها. مشاريع تصريف السيول ومياه الأمطار والصرف الصحي، ويشترك فيها أمانة جدة مع وزارة المياه والكهرباء، وذلك باعتبار أنه تم اعتماد مبالغ ببلايين الريالات لهذه المشاريع من دون أن يلمس أهل جدة أي تطور ملاحظ فيها. غياب التحذيرات وأجهزة الإنذار الباكر، التي ترتب عليها عدم علم الأهالي بوجود سيول منقولة من خارج جدة، وتشترك في هذه المسؤولية وزارة الأرصاد وحماية البيئة مع المديرية العامة للدفاع المدني، فالجهة الأولى معنية بدرس ومعرفة أحوال الطقس وتوعية الناس بذلك، والجهة الثانية معنية بالإنذار من الأخطار والتعامل المباشر مع مخاطر السيول. وهناك كارثة تلوح في الأفق ألا وهي بحيرة القاذورات المسماة زوراً«بحيرة المسك»وهي في وضعها الآن كارثة محققة لما تحويه من أوبئة وأمراض تكفي لنشر«حمى الضنك»في أرجاء جدة كافة،كما أنها تنذر بكارثة أخرى تتمثل في إغراق شمال جدة بالقاذورات عند أي زيادة لمنسوب المياه فيها، ولن تحمي المنطقة العقوم الترابية الهشة التي أنشأتها أمانة جدة، ولا ريب أن هذه من الطوام التي زرعتها الأمانة بشكل بدائي ولم تلجأ للطرق الحديثة التي ينتهجها العالم كله للتخلص من مياه الصرف الصحي. وهناك عدد آخر من الصور الأخرى الكثيرة المصاحبة لهذا الحدث المؤلم، ولعل معظمها منبثق من مشكلة أزلية تعاني منها مدينة جدة تتمثل في عدم وجود جهة إشرافية تكون هي المرجعية الوحيدة التي تتولى التنسيق بين فروع الوزارات كافة وتوحّد الجهود وتفرض نوعاً من الرقابة الصارمة على الازدواجية أو التعامل السلبي من الإدارات أو الجهات ذات العلاقة. ولعل هذا يبرز الحاجة الملحة لإنشاء هيئة عليا لتطوير مدينة جدة برئاسة أمير المنطقة، ويكون لها الصلاحيات ذاتها المنصوص عليها في نظام هيئة تطوير مدينة الرياض، وتلزم فروع الوزارات والأجهزة الحكومية كافة على أن تعرض كل مشاريعها وأعمالها الإنشائية على هذه الهيئة لإجازتها والرقابة على تنفيذها، كما أدعو أعضاء لجنة خادم الحرمين لوضع خط ساخن يتضمن رقم وفاكس هذه اللجنة، وذلك ليتواصل المواطنون معها بالمعلومات والحقائق والإفادات للإسهام في أعمال هذه اللجنة ولكشف الحقائق التي قد لا يطلع عليها إلا المتضررون أنفسهم. مستشار قانوني [email protected]