تشكّل التجارب والمواقف التي يعيشها المعلمون والمعلمات المغتربون في قرى ومناطق نائية تبعد مئات الكيلومترات عن مساقط رؤوسهم جزءاً أصيلاً من تكوين حياتهم، ففي حين يتأقلم بعضهم مع الأوضاع الجديدة ويجد بعضهم متعة في العيش هناك إلى درجة الذوبان عبر مشاريع الاستقرار النهائي والزواج وعدم التفكير في العودة، يواجه الكثير منهم صعوبات فراق الأحباب والبعد عن مدن طالما اعتادوا على صخبها ولم يعرفوا نقصاً في أساسيات الحياة فيها. وها هي المعلمة فاطمة رباح يستقبلها أهل الجربة (تبعد عن أبوعريش ربع الساعة) بأكاليل الفل والياسمين وتقول: «لم يكن أمامي حل سوى تحمل أحزان الغربة وفراق الأهل والالتحاق بالعمل برفقة أخي الصغير (14 عاماً)، إلا أن طيبة أهل القرية واستقبالهم الحفي بددا مخاوفي والقلق الذي انتابني في بداية الأمر». وأضافت: «لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل عمدوا إلى تزيين خصلات شعري بأكاليل الفل والياسمين وتقديم وجبة العريكة على مائدتي، في حين تكفلت كبيرتهن (أم عويلي) بتجميل يدي بنقش الحناء». وذكرت أن إصابة أخيها بالصرع وعدم توافر مستشفى أو مستوصف هو ما شكل لها صعوبة ومعاناة في تلك القرية، ما اضطرها للاستنجاد بجيرانها وقت الفجر ليتكفل والدهم الكبير في السن بمرافقة أخيها في مستشفى أبوعريش لمدة يومين. وعن كيفية التعرف على المكان الغريب وإمكان التعامل معه، قالت المعلمة نجلاء: «تلعب طالبات قرية الشيط (300 كيلومتر من الدمام) دور المرشدات السياحيات والساعد الأيمن لنا نحن المعلمات المغتربات... فأنا من منطقة الجبيل وأجهل طبيعة القرية ولا أستطيع توفير الكثير من المستلزمات والمتطلبات، خصوصاً أنني رائدة نشاط... ما اضطرني إلى اللجوء للطالبات اللاتي كنّ أيادي عاملة داخل المدرسة وخارجها، لدرجة أنهن بادرن بتوفير عمال عن طريق أولياء أمورهن، وأخريات اشترين بقية المستلزمات على نفقتهن الخاصة». وعن طريقة استقرار المعلمات المغتربات في القرية، أوضحت أن بعضهن يسكن في بيوت طينية لا تقاوم البرد القارس وتسرب مياه الأمطار في قلب البيت، في حين يكتفي بعضهن باستئجار ملحق تابع لمنزل أحد الجيران. ويشرح عماد الزهراني من سكان المنطقة الغربية ومعلم في قرية الحفنة (150 كيلومتراً من الرياض)، الطريقة التي استقبله بها أهل القرية مع والده عندما تم تعيينه قبل سنتين، بأنهم أعدوا وليمة عشاء على شرفه ووالده، وقال: «على رغم معاناتنا من عدم توافر بقالة تلبي حاجاتنا اليومية إلا أننا وجدنا عزاءنا في تلمس أحد وجهاء القرية لحاجاتنا، إذ عمد إلى فتح بقالة صغيرة بجانب سكن المعلمين»، مضيفاً أن أهل القرية لم ينسوهم في شهر رمضان الكريم، كما أنه تعلّم الصبر وتحمل مصاعب الحياة وكيفية التصرف في المواقف الصعبة. وشهدت قرية اسطبر (100 كيلومتر من مدينة حائل) عقد قران معلمة مغتربة (فضلت عدم ذكر اسمها) على أحد أبناء القرية، وقالت: «قدمت من الرياض، ولكون أبي شيخاً كبيراً ولا أخ لي اضطررت إلى السكن مع اثنتين من المعلمات في ملحق تابع لمنزل أحد الجيران، وكانت والدتهم لا تتأخر في إرسال وجبات الغداء والعشاء يومياً مع بناتها لنا، بل ذهبت في دعمنا إلى حد أنها كانت تقسم الأيام بينها وبين أبنائها الصغار ليناموا معنا ويؤنسوا وحشتنا». وأضافت أن طيبة أهل القرية وطدت علاقتها وشجعتها على الارتباط بأحد أبنائها المعلمين، لتصبح ابنة القرية بعد أن كانت من المغتربات. ويذكر المعلم فهد راشد الذي يعمل في القرية نفسها، أنه يستغل فترات مكوثه الطويلة في التعرف على الكثير من آثار حائل وتعلم أداء العرضة الشمالية، ويقول: «لا أستطيع نسيان موقف مرعب مررت به، إذ تعرضت إلى لسعة عقرب، ولم أجد إلا معالجاً شعبياً وضع لي (لبخة) أسهمت في شفائي»، مضيفاً أنه عند عودته إلى مدينته في إجازة الصيف يتكفل جيرانه بحفظ أغراضه ومراقبة سكنه.