يحفر التاريخ على قمم جبال يوغسلافيا السابقة في قلب أوروبا، قصة التعدي على حرمة الدم بين الأخوين «قابيل» و «هابيل» وإن اختلفت الأسباب. حين أجبر الزمان إخوة الأرض يوغسلافيا في وجه محاور الفاشية والنازية اتفق الجميع بهدف النجاة، وحين انتهت حال الإجبار، قتل «قابيل» أخاه «هابيل». على مساحةٍ لا تتجاوز مساحة حرات المدينةالمنورة وقراها، لا ينسى كل «هابيل» من مسلمي يوغسلافيا قصة الصمت في وجه آلة حرب «هتلر» و «موسوليني»، ويذكر الجميع محاولات الصمود في وجه شيوعية «تيتو». جلس الحاج البوسني عصمت مصطفى باش (57 سنة) يخبئ الهدوء والصبر في جينات دمه، ويستحث ذكريات النشأة مسلماً بالفطرة، ملحداً شيوعياً تعجبه شخصية الرفيق اليوغسلافي «تيتو» في سن الشباب، منضماً إلى جوقة الرفاق بعد التقاط الحزب لعلامات نبوغ طالب تقنيات الإلكترون، وعائداً إلى فطرة الروح تحت إلحاح ذكريات الطفولة بمجرد المرور تحت مئذنةٍ رفعت الأذان يوماً في أذنه. يحكي باش: «نشأت في بيتٍ محافظٍ على الإسلام على رغم تضييق النظام على الحريات الدينية»، وعند مغادرة المنزل بعد المرحلة الثانوية «اتجهت إلى العاصمة بلغراد أدرس الإلكترونيات، وللأسف تركت الدين، إذ غسلت أدمغتنا المواد التعليمية النظامية، والرغبة في مستوى معيشي راقٍ». ولم تكن الخيارات في النظام اليوغسلافي الشيوعي كثيرةً، فإما البقاء على الدين والأمية، أو فراقٌ بيّن وعندها التعليم والوظيفة، ولم يكن للشباب اليوغسلافي بكل انتماءاته الدينية إلا شخصية الرفيق «تيتو» يشبعون نهم الانتماء القومي بالإعجاب بها تحت مبررات القوة ومحاولات البناء وشعارات المساواة. يواصل الحاج عصمت: «لم أدخل يوماً في أيٍ من تنظيمات الجامعة أو أنشطتها، ولكن تفوقي في مجال دراستي في الإلكترونيات جعلني اقرأ اسمي على قوائم المنتسبين الجدد إلى الحزب الشيوعي الحاكم»، وبدأت الحيرة، فإما الرفض وما يتبع الرفض من عقوبات أو الموافقة والسكوت على مضض. يتابع: «دخلت بعدها في برنامج لمدة ثلاثة أشهر لتعليم مبادئ الشيوعية، وبالفعل وصلت إلى مرحلة الإلحاد الكامل، لكني بقيت محتفظاً بعلاقتي مع زملائي الموجودين في يوغسلافيا من العرب عموماً والفلسطينيين على وجه التحديد والتي أثارت الحزب عليّ»، وبعدها بدأت المضايقات في محاولة لدفعه إلى ترك ما هو عليه حتى وصل الأمر إلى طرده خارج الحزب. وبعد التجربة الشيوعية يقول عصمت باش: «إن سر إعجاب الشباب بالقائد اليوغسلافي تيتو كان مرتبطاً بسياسته، التي أظهرت نوعاً من المساواة بين اليوغسلافيين كافة، وكان اختيار رئيس الوزراء اليوغسلافي «جمال بياديش» صاحب الأصل البوسني سبب الإعجاب الأكبر بين الشباب المسلمين». وعاد بعدها الرفيق السابق عصمت باش إلى مدينته «باقلي» ليتذكر نشأته الإسلامية متراجعاً عن انحرافات الإلحاد ومالئاً الفراغ الروحي، وليعمل في مصنع الورق الأكبر في يوغسلافيا كمهندس للإلكترونيات، مواصلاً حياته بطريقة عادية حتى وفاة تيتو التي مثلت نقطة تحول في تاريخ يوغسلافيا، إذ أعقبها سيطرة الصرب الأرثوذكس على مفاصل الحياة وفرض سطوتهم على المسلمين والكاثوليك، حتى حانت ساعة الحرب في عام 1993. يتذكر عصمت باش بعد أن صمت لبرهة وفرك عينيه بقوة: «كانت قصة طويلة ولكل مسلمٍ في يوغسلافيا قصة تستحق أن تروى، لم نكن نرغب في القتال ولم نحمل السلاح ولكننا اضطررنا إلى ذلك حفاظاً على أنفسنا وعلى ديننا». يعود فيتذكر القصة الأصعب حين حاصر الصرب مدينته الواقعة في مركز استراتيجي لمدة ستة أشهر: «صنعنا السلاح بأنفسنا بشكلٍ بدائي في مصانع محلية، وكانت الصعوبة الأكبر في توفير إمدادات الطعام»، وحينها بدأت السماء في إنزال ما يحتاج أهل المدينة من الطعام، إذ كانت المروحيات الأميركية تحلق وتنزل ما يحتاجه أهل المدينة من الغذاء اللازم، «تدخل بعد ذلك الإخوة لدعمنا من الخارج ولنكسر صلف الصرب عند أبواب المدينة». يلملم الحاج عصمت باش باقي أوراقه بتذكر من فقدهم في الحرب، وإن كان أقل بكثير من غيره، إلا أن معطيات الحاضر حيث الأمن والاستقلال تساعدهم على العيش بطمأنينة. غادر عصمت باش وهو يحاول لفت الانتباه إلى الأوضاع الاقتصادية التي ما زال يئن تحت وطأتها من تبقى من كل «هابيل» لم تلحقه دموية «قابيل».