تنطلق اليوم في جنيف ولمدة 3 أيام اجتماعات المؤتمر الوزاري السابع للدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية، وسط احتياطات أمنية مشددة تحولت فيها جنيف الى ثكنة عسكرية محصنة يصعب التنقل فيها، بعد مواجهات مساء أول من أمس السبت شهدتها المدينة بين الشرطة وأعضاء جماعة «الكتلة السوداء» المناهضة للعولمة. ووسط حشد إعلامي وجماهيري، تجد الدول الأعضاء في المنظمة نفسها أمام منعطف يمكن وصفه بالخطير، فالقمة تعقد وسط ضبابية مكثفة لا ترتئي حلولاً ضرورية للخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية، ولا عن مستقبل جولة الدوحة لتحرير التجارة العالمية التي يُفترض أنها تحرص على اهتمامات الدول النامية والأكثر فقراً. وتعقد القمة بعد قمتين لدول مجموعة العشرين خلال عام واحد لم يتم الكثير من القرارات التي اتخذتها، فالدول التي طالبت بعدم اللجوء إلى إجراءات الحماية الاقتصادية هي ذاتها التي تخالف الإجراءات حرصاً على اقتصادها القومي وأملاً بالتخفيف من طوابير البطالة التي تتزايد أسبوعياً. وتتراجع تلك الدول عن إلغاء دعمها المنتجات الزراعية وصادراتها، على عكس ما تطالب به مقررات تحرير التجارة العالمية، ومن ثم يرى منتقدون أن الدول النافذة اقتصادياً ليست مستعدة لاتخاذ خطوات جماعية تُنقذ الاقتصاد العالمي، بل تحاول كل واحدة ترميم داخلها قبل أن تنظر في شأن جماعي مشترك. رئيس منظمة التجارة العالمية باسكال لامي حاول تقليل سقف التوقعات الإيجابية من القمة، التي يشارك فيها 153 وزير تجارة وصناعة من الدول الأعضاء، وتفادى ذكر كلمة «الفرصة الأخيرة» في أحاديثه الصحافية وكلماته التي القاها في مناسبات مختلفة خلال الأسابيع الماضية، على عكس ما كرره مراراً عام 2007 وتحديداً قبل اندلاع الأزمة العالمة، ويعكس هذا الحرص على انتقاء المفردات والعبارات، حجم المشكلات المطروحة على طاولة المفاوضات وتوقعاته بصعوبة التوصل الى حلول وسط، فضلاً عن استحالة التوافق على خطوات محددة في أوقات زمنية واضحة. المشكلة كما يراها محللون هي في البحث عن العدالة التجارية والفرص المتساوية بين الشمال والجنوب، بحيث كشفت أزمة المال والاقتصاد العالمية أن أفكار الليبرالية الاقتصادية ليست كافية للحماية من الكوارث والنكبات أو قادرة على معالجة تداعياتها التي طالت الجميع. فالأزمة جعلت كل دولة تنظر أولاً الى حماية مصالحها الاقتصادية، فتنصلت الدول الغنية من وعودها بدعم فقراء الجنوب بل طالبتهم بضرورة المضي قدماً في فتح اسواقها لعرض منتجات الشمال «تشجيعاً للتجارة الدولية وإنعاشاً لحركة الاقتصاد العالمي». في المقابل اعتمد مناهضو العولمة موقف الدول الغنية كدليل غير قابل للشك على أن العولمة ليست لخدمة الجميع بل للأقوياء فقط، وأن اضرارها أكثر من ايجابياتها وتطاول المزارعين والعمال البسطاء في الشمال والجنوب على السواء، وأكدوا في الوقت ذاته على أن التعاون بين الشمال والجنوب ممكن وليس مستحيلاً ولكن ليس من منطلق تحقيق المكاسب المالية وبأي ثمن. وتقول منظمة أوكسفام الدولية في بيان لها صدر في جنيف قبل اعمال القمة: «إن استمرار شلل جولة الدوحة يلحق أذى شديداً بالدول الفقيرة ويعرقل آفاق التنمية، لذا تشعر المنظمة بالقلق إزاء استمرار عدم إحراز تقدم في جولة الدوحة». وذهبت إلى أن «عدم وضع جولة الدوحة على جدول أعمال القمة يعني أنها دخلت في طور الاحتضار» واعتبرت أن المطلب الأكثر إلحاحاً الآن هو البحث عن نظام تجاري متعدد الطرف». وتعترف اوكسفام بأن جولة الدوحة «لن تكون الدواء الشافي لتحديات التنمية لكنها على الأقل تضع حداً لأكثر السياسات المشوهة للتجارة، وتساعد الدول النامية على حماية فرص العمل والأمن الغذائي وتأمين سبل الوصول إلى الأسواق معفاة من الرسوم الجمركية لمنتجات أقل البلدان نمواً. وتطالب المنظمة «الدول الغنية، بخاصة الولاياتالمتحدة، بالعودة إلى طاولة المفاوضات مع مقترحات ملموسة جديدة وضعت حداً لسياسة إغراق التصدير وبمطالب أكثر واقعية للوصول إلى الأسواق، لأن ما هو معروض حالياً على الطاولة لن يؤدي إلى المساهمة في خدمة التجارة من اجل التنمية». منظمة تحالف الجنوب التي تضم ست منظمات غير حكومية معنية بالتنمية في الجنوب، تطالب القمة بضرورة تحويل دفتها الى المشكلات القائمة بالفعل مثل أزمة الغذاء العالمية، وتفيد في بيان لها وزعته هنا قبل القمة : بأن جولة الدوحة لم تقدم للتنمية في دول الجنوب سوى الأسم فقط، وقالت ممثلة التحالف إلى القمة ازولدا اغاتزي ل «الحياة» إننا « نطالب برفع الدعم عن الصادرات الزراعية بصورة تمهيدية وتخفيف العوائق الإدارية التي تفرضها حكومات الشمال على منتجات دول الجنوب ورفع الحظر عن حماية الاختراعات المتعلقة بالأدوية المهمة لمعالجة الأمراض والأوبئة المتفشية في دول الجنوب. وعلى عكس أوكسفام يرى تحالف الجنوب أن إحياء جولة الدوحة ممكن من خلال اجراء تعديلات جوهرية على بنودها، «بحيث يجب النظر الى منظمة التجارة العالمية على أنها جزء من الحل تماماً مثلما هي جزء من المشكلة» بحسب قول اغاتزي، مضيفة الى أن ربط التجارة العالمية بمشكلات البيئة أمر مهم ويجب أن يدخل في أجندة اجتماعات منظمة التجارة العالمية، التي يجب أن تدعم نقل التقنيات المتطورة والمطلوبة لمساعدة الدول النامية والأكثر فقراً على التعامل مع التداعيات السلببية للتغيرات المناخية على منتجاتها الزراعية والحيوانية. ويؤكد تحالف الجنوب ضرورة وضع الأمن الغذائي وضمان التوزيع العادل للطعام على فقراء وجياع العالم كأحد المحاور الأساسية التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار، ومراقبة الاتفاقات الثنائية التي تلتف حول الضمانات اللازمة للتجارة العادلة بين الشمال والجنوب. وتعوّل منظمات غير حكومية على أن يؤدي الضغط على منظمة التجارة العالمية، إلى التفكير في شكل جدي بإدخال إصلاحات على مسارها وفلسفة عملها وأدائها في تقويم يجب أن يكون منطقياً بعيداً من العواطف والتعصب غير الرشيد، إذا كانت المنظمة جادة في سعيها إلى خدمة البشرية جمعاء، وأنها ليست واجهة يختفي وراءها أصحاب المصالح وذوو النفوذ، بحيث أوضحت الأزمة المالية والاقتصادية العالمية أن الأقوياء يتسببون بالأزمة ثم يهرولون مطالبين الجميع بالمساعدة، بينما يتذرعون بالحجج والأساليب للتنصل من وعودهم في دعم الجنوب، حتى فاق عدد جياع العالم البليون نسمة للمرة الأولى في التاريخ.