ما زلت أتذكر ذلك اليوم من صيف منتصف السبعينات الميلادية، حين قام أمير منطقة الرياض - وقتها - بزيارته لمقر مؤسسة اليمامة الصحفية، منتقلة بصحيفتها «الرياض» ومجلتها «اليمامة»، من حي المرقب، إلى مكانها الجديد الواقع بين نهاية شارع الستين وبداية طريق خريص، حيث رأس سلمان بن عبدالعزيز، اجتماعاً لهيئة تحرير صحيفة «الرياض»، لم يتجاوز عددهم عشرة أشخاص، بما فيهم رئيس التحرير. وبما أنني كنت أتولى الإشراف على الملحق الأدبي بالصحيفة، التفت إليَّ الملك سلمان، وابتسامة تعلو محياه قائلاً: - أخ محمد.. أراك تكثر الاهتمام بقصص غادة السمان وأخبارها، وكانت الأديبة اللبنانية من أصل سوري، نجمة جيلنا من الجنسين، مردفاً: لماذا لا تنوع من مادتك الأدبية؟ منذ تلك اللحظة تراءى لي سلمان بن عبدالعزيز في هيئة رئيس تحرير، قارئاً متابعاً لما يكتب فوق أعمدة الصحف، ورحت أسترجع مطالعاتي المبكرة للصحافة السعودية واللبنانية، ورسمت صورة له، بوصفة أميراً قارئاً للصحافة وصديقاً للصحافيين، إذ ارتبط بعلاقة مع كامل مروة صاحب ورئيس تحرير صحيفة «الحياة»، يقضي معه الساعات الطوال في مكتبه، لا يقطعها سوى كتابة كامل مروة الافتتاحية اليومية، وصديقه الأمير يتأمله في لحظات الانتظار. وما زالت في الرأس بقايا صور، فهذا هو سلمان بن عبدالعزيز يحط في أخريات الستينات الميلادية رحلة في بيروت ليقضي إجازته الصيفية بعد عناء سنة عمل دؤوب، بقصد الالتقاء بأصدقائه الصحافيين اللبنانيين، ويذكر فريد أبوشهلا صاحب ورئيس تحرير مجلة «الجمهور»، أن الأمير سلمان حينما تعذر عليه الالتقاء بأحد منهم بسبب قضاء إجازاتهم السنوية في باريس، سرعان ما حزم حقائبه إلى عاصمة النور للالتقاء بهم. عندما تجذر وجودي في صحيفة «الرياض»، محرراً صحافياً، فكاتباً لمقالة أسبوعية في صفحة «حروف وأفكار»، وقبله وبعده كاتباً يومياً لزاوية «أصوات»، تعمقت الصلة بالأمير الملك، لأعيش إشكال علاقة المثقف بالسلطة. هذه التي لم يخرج منها المثقف والإعلامي العربي في الأغلب سالماً، خصوصاً في الدول التي انتهجت نظاماً شمولياً وعقيدة آيديولوجية، صادرت حرية المبدع وموقف المثقف في حقه المشروع عن التعبير، بل إن تلك الأنظمة غيّبت حتى مشايعيها في غياهب سجونها، لتأكل الثورة أبناءها في أطباق التلذذ بمذاق الدم، حداً جعل محمد مهدي الجواهري شاعر العراق الأكبر والمبشر بالعصر الثوري فيه، أن يعبر لي في آخر لقاء تلفازي أجري معه، بأنه لو خيّر له العيش في أحد عهود العراق الحديث، فلن يختار سوى العهد الملكي الذي حفظ كرامته الإنسانية، وبلّغ أمانيه في الحصول على إصدار صحافي، مع وظيفة في البلاط الفيصلي. ولعل ما بقي من صنو الجواهري من ذلك الجيل العربي المستيقظ على حلم الدولة الوطنية، والمشروع القومي، سيفضل الخيار ذاته في العيش تحت حراب المستعمر الأجنبي في مصر والسودان وسورية ولبنان وليبيا واليمن الجنوبي، على العيش في أنظمتها الوطنية، المسيجة بالقمع السياسي والمغامرات الطائشة، التي قضت على البشر والحجر في بلدانها، وما نراه اليوم من مسلسل الانهيارات المتتابع لبنية الدولة الوطنية فيها، لم يكن سوى ثمرة مرة لبذرة مسمومة. في هذا السياق، يلقي الأمير الملك سلمان بن عبدالعزيز ضوءاً كاشفاً عن التجربة السعودية، يقول في محاضرته أمام أساتذة وطلاب جامعة أم القرى بمكةالمكرمة عام 1429ه: «تعامل الملك عبدالعزيز مع من عارضه أو حاربه من أجل إقامة هذه الدولة تعاملاً إنسانياً وكريماً، حيث قيل إنه ما من شخص عاداه وبقي حياً يرزق إلا عاد إليه طوعاً بسبب حسن تعامله وصدقه مع الناس». وهنا نراه يستشهد في لقاءاته العامة والخاصة بموقف والده المؤسس الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، مع عبدالله الدباغ أحد أبرز موظفي بلاط الشريف حينها في الحجاز، إذ ذهب مغاضباً إلى بغداد، ومن هناك أصبح يراسل أصحابه ومريديه، منتقداً الوضع الجديد، بعد ضم الملك عبدالعزيز إقليم الحجاز إلى مملكته الوليدة، متهماً إياه وشعبه بالجهل. وعندما استتب الأمر للملك عبدالعزيز، وبدأ بروز نجمه على الساحة المحلية والعربية والإسلامية والدولية، أرسل عبدالله الدباغ من مهاجره العراقي، طالباً العودة إلى ربوع بلاده، ولم يدر في خلده أن الملك عبدالعزيز سيصفح عنه، غير أنه بعد مقابلته أطلعه على ما تضمنته مراسلاته تلك، قائلاً له: أما وقد اتهمتني وشعبي بالجهل، فهذه معتمدية المعارف، وكانت - بمثابة الوزارة - أعهدها إليك لتنشر روح العلم وأنوار المعرفة بين شعبي. وفي محاضرة الملك سلمان بن عبدالعزيز نفسها، يعبر عن إعجابه بمنهج والده العظيم، في المشاركة الوطنية، وقد أرسى دعائمها في إدارة شؤون البلاد، بتأسيس المجالس الأهلية والبلدية في مكةالمكرمة وجعلها بالانتخاب، وأسس من هناك بالمنهج ذاته مجلس الشورى عام 1345ه. إن هذا هو ما دفعني - قبل أيام - لمناشدة خادم الحرمين الملك سلمان بن عبدالعزيز من تحت قبة مجلس الشورى، بعد صدور أمره الكريم بتشكيل مجلسين من الوزراء.. للشؤون السياسية والأمنية، وآخر للشؤون الاقتصادية والتنموية، طالباً منه أن يستعيد مجلس الشورى الحالي دوره القديم حينما أنشأه الملك عبدالعزيز، بوصفه مسؤولاً عن السلطة التنظيمية (التشريعية) في صياغة الأنظمة أو اقتراحها، وتمكينه من أداء دوره التنظيمي والرقابي والمالي، وذلك بإعادة النظر في بعض مواد نظام مجلس الشورى الحالي، ليستعيد دوره التشريعي الأصيل، وذلك قبل أن يشكل أول مجلس للوزراء بعد وفاة الملك عبدالعزيز رحمه الله، ليمارس سلطة مركبة من التشريع والتنظيم، هو ما يجعل مجلس الشورى يتضارب اليوم في بعض قراراته مع مجلس الوزراء. أعود مرة أخرى إلى اهتمام الملك سلمان بالثقافة، فبعدما وقف على جذور تجربة المجتمع المدني في عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله، نراه يواصل مسيرته في تنشيط هذا المجال، برئاسته عدداً كبيراً من الجمعيات والمؤسسات الأهلية، مشجعاً رجال الأعمال والناشطين الاجتماعيين في الدخول إلى عالم ما يسمى بالقطاع الثالث، المتوسط الدور والفعالية بين القطاعين الحكومي والخاص، ودفع بالعديد من المؤسسات والجمعيات وكراسي البحث الأكاديمي إلى الظهور. وترأس - حفظه الله - مجلس إدارة دارة الملك عبدالعزيز، التي شهدت أخيراً نشاطاً واسعاً في خدمة تاريخ وجغرافية وآداب وتراث المملكة والعالمين العربي والإسلامي، ورقمنة مصادرها، وتحفيز البحث العلمي، إضافة إلى إنجازات الدارة في مجال النشر والتوثيق وتسجيل التاريخ الشفاهي، وترميم المخطوطات. أما قصة إنشاء مكتبة الملك فهد الوطنية، التي نتطلع اليوم لكي تكون في مصاف المكتبات الوطنية في أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وتركيا، فلم تكن سوى مقترح من الملك سلمان حينما كان أميراً لمنطقة الرياض، وعزم الأهالي على إقامة احتفال ضخم بمناسبة تولي الملك فهد الحكم، فاقترح عليهم استثمار تبرعاتهم في إقامة هذه المكتبة الوطنية التي تحولت إلى هيئة مستقلة مرتبطة إدارياً بديوان رئيس مجلس الوزراء، ومجلس أمناء برئاسة الملك سلمان، وأصبحت اليوم شاهداً عمرانياً، ومعلماً ثقافياً في عاصمة المملكة، محققة العديد من الإنجازات، في الحفاظ على التراث المخطوط، وتمتعها بنظام إيداع لكل مطبوعة سعودية. وبما أن هذه الندوة تقام تحت ظلال معرض الرياض الدولي للكتاب، أستذكر ما قاله خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في محاضرة له عام 1432ه، ناصحاً الشباب بالقراءة ثم القراءة ثم القراءة، والاختلاط بأهل الفكر النير، ناصحاً أبناءه بأن يكثروا من القراءة حتى تتسع أفكارهم. هذه النصيحة لها مراميها البعيدة، وانفتحت بلادنا بعد عزلة تاريخية على متغيرات العالم، وتشكلت فيها هندسة اجتماعية قوامها من الشباب، الذين مع الأسف نجحت أفكار الإرهاب وجماعات العنف، وثقافة التعصب والتكفير، في أن تسرق بعض شبابنا من بيوتهم الآمنة. لتلقي بهم جماعات الإسلام السياسي في أتون حروب عبثية، متورطين في إراقة الدماء البريئة، ما يحتم على وزارة الثقافة والإعلام تبني مشروع ثقافي وطني، يساند جهود قوى الأمن في مكافحة الإرهاب، ويعمل على تجفيف منابعه، وهذا لن يتحقق ما لم تحدث الوزارة نقلة نوعية في برامج التنمية الثقافية، فما زالت في غاية الضعف والركاكة، على رغم ما تملكه بلادنا من مقومات القوة الناعمة، التي أصبحت دول العالم المتقدمة والناهضة تستثمر في معطياتها الثقافية، بوصفها المعادل الإنساني للقوة الصلبة، عبر تفجير طاقات أبناء وبنات المجتمع الخلاقة في إنتاج الأفكار، وإبداع النصوص في جو حر من التعبير، وفق خطة ثقافية واضحة المعالم والأهداف، لتحقيق تنمية مستدامة تقوم على القيم الدينية، والمخزون التراثي الفصيح والشعبي، وتعزيز هوية المجتمع، وتفعيل المجتمع المدني، وحماية التنوع الثقافي وتعددية الآراء. هذا وكفل النظام الأساسي للحكم في مادته ال29 رعاية الدولة العلوم والآداب والثقافة والعناية بتشجيع البحث العلمي، وصيانة التراث الإسلامي والعربي، والإسهام في الحضارة العربية والإسلامية والإنسانية، إلا أن هذا الحق التشريعي للمواطن السعودي مع الأسف لم يفعل حتى الآن، مما يدعوني من هنا إلى إطلاق دعوة للزميل وزير الثقافة والإعلام العزيز الدكتور عادل بن زيد الطريفي، لأن يتبنى على الفور مشروعاً وطنياً يحمل اسم مشروع الملك سلمان للتنمية الثقافية. يعمل على ردم الفجوة الثقافية بين النمو المادي وحركة المجتمع، الذي تسبب استمرارها - على توالي عقود - في حدوث اختلالات اجتماعية ومفاهيمية، ترتب عليها وجود تيارات متضاربة في المجتمع، تراوحت بين المحافظة والتغريب، حالت دون بناء الشخصية الوسطية، بسبب افتقارنا لمشروع وطني يستوعب حال الاحتقان النفسي والذهني في مجتمعنا السعودي، يبدأ من إنشاء بنية تحتية من مراكز ثقافية، وأكاديمية للفنون، ومتاحف للفنون التشكيلية، وقاعات للسينما والمسرح، وتشكيل فرقة وطنية للفنون الشعبية، وإحياء مهرجانات ثقافية وفنية موسمية في مواقع أسواق العرب القديمة، وإقامة مكتبات حديثة، والاهتمام بثقافة الطفل، وإصدار مجلات ومطبوعات دورية، وتبني مشروع قومي للترجمة، مع الحفاظ على اللغة العربية وآدابها. كل ذلك يحتاج إلى إعادة هيكلة القطاع الثقافي الهزيل حالياً في الوزارة، والحصول على تمويل حكومي سخي للصرف على برامج هذا المشروع الثقافي الوطني، الذي تتشرف بأن يكون اسم الملك المثقف سلمان بن عبدالعزيز متوجاً على رأسه. * ورقة قدمت في ندوة «الملك سلمان.. صناعة الثقافة»، ضمن فعاليات معرض الكتاب.