منذ حقّق الكندي دافيد كروننبرغ قبل نحو ثلاثة عقود من الآن فيلمه الرائع – والغامض إلى حدّ ما – «الحفل العاري» عن رواية شهيرة لتشارلز بوروز، المعتبر أحد الأساسيين في أدب «البيت جنرايشن»، لم يعد من المستساغ كثيراً تصنيف الأدب الأميركي الحديث بأنه «عصيّ على الأفلمة»... لمجرد أنه يحمل في أسلوب كتابته من التركيبية وفي بناء شخصياته والعلاقات فيما بينها من الغموض، ما قد يجعل من أدب جيمس جويس في المقارنة النسبية، أدباً شديد الوضوح بل كلاسيكياً! فالكتابة السينمائية الجديدة التي اتبعها كروننبرغ أتت في ذلك الحين منتمية إلى أسلوب رايموند تشاندلر العابر كتابة ويليام فوكنر مطبّقاً إياها على الحبكة البوليسية، باتت منذ ذلك الحين تسمح بكل أنواع «التجاوزات» والاستعارات إنما برسم جمهور كان اعتاد ألا تكون السهولة والتبسيطية مراده الأول والأخير. وخلال العقود الثلاثة المنصرمة، وتحديداً الفترة التي انقضت بين ظهور «الحفل العاري»، وظهور فيلم أكثر جدة لكروننبرغ نفسه هو «كوزموبوليس» المأخوذ بدوره عن رواية للكاتب المعاصر جون دي ليللو تنتمي إلى الحداثة الأدبية الأميركية نفسها التي تدين إلى ويليام فوكنر أكثر مما تدين إلى إرنست همنغواي وواقعيته، مرت مياه كثيرة تحت الجسور وأُفلمت روايات كثيرة كانت معتبرة في أصولها الأدبية عصية بدورها على السينما. فمنذا الذي كان يمكنه أن يتصور في السبعينات مثلاً أن تصل رواية جاك كيرواك «على الطريق» إلى الشاشة الكبيرة؟ وبتوقيع البرازيلي المغرق في الواقعية والتر ساليس، على سبيل المثال لا الحصر؟... خلاصة هذا كله هي أن السينما لم تعد تعتبر أي شيء أو أي موضوع أو أسلوب محرماً عليها، ومخرج مثل الراحل روبرت آلتمان لم يعد مضطراً إلى تحويل نص لرايموند تشاندلر هو «وداعاً يا حبيبتي» إلى عمل سينمائي ساخر كي يمرره على شاشته الكبيرة. وفي هذا السياق سيبدو لنا بالتأكيد أقرب إلى أن يكون طبيعياً اقتباس بول توماس أندرسون رواية توماس بنشون الجديدة نسبياً – إذ إنها صدرت عام 2009 – «عيب موروث» في الفيلم السينمائي الذي حمل العنوان نفسه ويعرض حالياً في الصالات بنجاح لا بأس به. وكذلك بإقبال نقدي تهزه بعض الأصوات «الناشزة» بين الحين والآخرة، ولنقل الناشزة نسبياً طالما أن رفضها للفيلم ينبع من مبدأ الحق في الفهم والتتبع المنطقي للحوارات والأحداث، معتبرة أن هذا الحق غير متوفر هنا. وهي على حق في ذلك بالطبع. ومع هذا فإن الرد عليها ليس شديد الصعوبة: من قال إن مبدأ حق الفهم في السينما مبدأ مطلق؟ نعم للفهم التركيبي! وبول توماس أندرسون على أية حال هو من المخرجين الذين لا يأبهون كثيراً لمسألة الفهم التبسيطي. بالنسبة إليه يمكن أن يكون المتن السينمائي لمخرج ما، منظومة فكرية وجمالية متكاملة تنطلق أصلاً من «الاستيلاء» على عمل إبداعي آخر، لإدراجه في سياق يشكل لدى المخرج هاجساً قد لا يكون ورد في بال مبدع العمل الأصلي. ولعل مقاربة تحليلية للأفلام الثلاثة الأخيرة التي حققها أندرسون تباعاً، وصولاً إلى «عيب موروث»، توصلنا إلى هذه الفرضية، علماً بأن الأفلام الثلاثة مقتبسة من كتب روائية أو تدنو من الروائية: فقبل ثمانية أعوام حقق هذا المخرج الشاب (44 سنة اليوم، ما يعني أنه ولد في العام الذي تدور فيه أحداث «عيب موروث» وفي كاليفورنيا نفسها تحديداً ما من شأنه أن يضفي على الفيلم بعداً شديد الخصوصية) فيلم «ستكون هناك دماء» عن رواية الكاتب الاشتراكي الأميركي آبتون سنكلير «بترول»، وقبل ثلاثة أعوام حقق «المعلم» عن كتاب يروي جزءاً من سيرة مؤسس طائفة العلماويين في أميركا. والآن ها هو يقدم إلينا فيلمه الجديد المقتبس من رواية بنشون. فهل إن الأصول الأدبية للأعمال الثلاثة كانت هي ما أغرى مخرجاً كان في أفلامه الأربعة السابقة لهذه «الثلاثية الأدبية» - وهي «الرقم ثمانية» و «ليالي بوغي» و «ماغنوليا» ثم «بانش درنك لاف»- كتب أعماله بنفسه؟ أبداً على الأرجح... فنحن إذا سبرنا أغوار الأفلام الثلاثة الأخيرة قد نجدنا أمام تاريخ ما لأميركا نفسها: من بدايات القرن العشرين مع الفورة النفطية وفردنة الرأسمالية الضارية («ستكون هناك دماء»)، إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية وبزوغ الخواء الأيديولوجي الذي أدى إلى تحول الفردية نوعاً من الطوائفية ذات الأفكار الغيبية معززة بكل أنواع الدجالين («المعلم»)، وصولاً الآن في «عيب موروث»، إلى تاريخ ما للوس آنجليس السبعينات إنما منظوراً إليه بحنين بدايات القرن الحادي والعشرين. وفي شكل أكثر تحديداً، زمن الهبيين وأحلامهم «الإنسانية» المستحيلة التي كانت قائمة على المخدرات والسلام والموسيقى. طبعاً لا يمكن الزعم هنا أن هذا السياق التاريخي واضح كل الوضوح في مسيرة أفلام «الثلاثية»... لكننا نفترض أنه كمن في مكان ما في خلفية رغبة أندرسون في أفلمة الروايات الثلاث. فإذا زدنا إلى هذا كون كل من الروايات تتناول في جانب منها، يتضخم حيناً وينزوي حيناً، مسألة الطوائف الدينية أو شبه الدينية وما حولها من نصب وشعوذة في هذه القارة/ الأمة المترامية الأطراف، ثم مسألة العلاقة المتأرجحة بين «الأب» أو من يقوم مقامه و «الإبن» أو من يحاول تجسيده، قد يمكننا أن نرتاح إلى فكرتنا بعض الشيء منتقلين إلى «عيب موروث» نفسه الآن، ليس كجزء من «الثلاثية» بل كشريط جديد لهذا المخرج الذي أبداً لم تكن السهولة في الاختيار والتنفيذ واحدة من مزاياه الواضحة. حكاية حب وبالتالي لا بد من القول منذ البداية إن «عيب موروث» ليس فيلماً سهلاً، حتى ولو اعتبرناه في جانب أساسي منه فيلماً بسيطاً يدور أولاً وأخيراً وبعدما نعريه تماماً، من حول قصة حب بين شاب وفتاة في لوس آنجليس السبعينات. ولا يقلل من هذا أن الشاب والفتاة يطالعاننا منذ مفتتح الفيلم منفصلين عن بعضهما البعض، إذ تلجأ إليه هي (تشاستا وقامت بدورها الرائعة صورة وصوتاً وأداء كاترين واترستون)، كي يساعدها بوصفه تحرياً خاصاً في العثور على حبيبها الجديد مخبرة إياه أن زوجة هذا الحبيب تتآمر مع عشيقها على تدميره – أي تدمير الحبيب. على الفور سوف يستجيب هو للطلب. فالرجل ويدعى دوك (قام بالدور جواكيم فينيكس مبدعاً مرة ثانية تحت إدارة أندرسون بعدما أداره هذا في «المعلم» إلى جانب الراحل فيليب سايمور هوفمان)، يستجيب من فوره رغم مشاكسة شرطيي لوس آنجليس له ويبدأ تحقيقاته التي لن تعود مهمة بعد تتالي أحداث ستبدو غير مترابطة فيما بينها للوهلة الأولى... أحداث متشابكة يكون دوك محورها وربما هدفها وفيها تختفي تشاستا بدورها ثم يُضرب دوك ليجد نفسه حين يفيق إلى جوار جثة أحد رجال مايك، حبيب حبيبته... وإثر ذلك تتزايد العلاقات والجثث والدهاليز متقاطعة مع ذكريات دوك عن حبه لتشاستا من ناحية، ومع اكتشافه من ناحية ثانية لوجود طائفة نصف دينية تختلط لديها أعمال التهريب بالممارسات المافيوزية... وكل هذا وسط مناخ يتأرجح بين الكوميديا الخالصة والتشويق البوليسي والتفكك العائلي وتحوّل الأحلام الهيبية إلى واقع سياسي بائس. أمام مثل هذه التبدلات والتطورات كان من حق عدد من النقاد، ولا سيما الفرنسيون منهم، أن يقولوا بأن ما من شيء بات مفهوماً منذ الربع الأول من الفيلم... بما في ذلك الحوارات التي بدت مفككة غير متجانسة تجانس الموسيقى التي أتت مستقاة من «بسيكاديلليك» السبعينات، عمادها الأساس أغنيتان لنيل يونغ بدتا مرتبطتين بما ظهر من معنى الفيلم بقدر ما ارتبطتا بأسلوبه... أغنيتان عن الحب لا شك أنهما تلعبان دوراً أساسياً في الإفصاح عن مقدار الحب الذي يكنه دوك لتشاستا... حب سينتهي الفيلم تاركاً إياه مفتوحاً على كل الاحتمالات بعد أن يتمكن دوك من كشف العديد من الألغاز والإجابة على العديد من الأسئلة التي لا شك أن المتفرجين كانوا طرحوها على أنفسهم خلال مشاهدتهم الفيلم وهم يحاولون عبثاً فهم ما يدور أمامهم على الشاشة. ومع هذا علينا أن نتنبه هنا إلى أمر أساسي يتعلق هذه المرة برواية بنشون، فهذه الرواية التي كتبها الرجل بعد ثلث قرن من تحفته الأساسية «قوس قزح الجاذبية» اشتهرت منذ صدورها بأنها أكثر روايات بنشون بساطة وقابلية لأن تُفهم. لكنها إذ صارت الآن جزءاً من فيلموغرافيا بول توماس أندرسون تعتبر الأكثر غموضاً في مساره... ولكن لئن قال بعض النقاد إن الفيلم لن يعتبر الأفضل بين أفلامه بل أسوأها، من المؤكد أن آخرين رأوا غير هذا بل إن أكثرهم يميلون منذ الآن، وريثما يتراجع الأول عن رأيهم، إلى اعتبار «عيب موروث» فيلماً قمة في النضوج لدى مخرج قد يكون شعاره اليوم «ومن قال لكم إن الفن وظيفته أن يُفهم؟».