في أوقات المحن والشدائد، دائماً ما تتوحد الكلمة والصفوف قيادة وشعباً لمواجهتها، ولا يخفى على الجميع أن ما قامت به شرذمة وعصابة مسلحة في الأيام الماضية من تسلل ودخول في الأراضي السعودية. يعد جريمة بشعة وانتهاكاً صارخاً لسيادتها وتم صدها وردعها عبر جنودنا البواسل من رجال القوات المسلحة المرابطين على الخطوط الأمامية على الحدود السعودية اليمنية في جبل دخان والخوبة، وعلى رغم أن هذه القضية كانت هي الاهتمام الأول على مستوى جميع الأفراد والمواطنين إلا أن قناة المجد المعروفة بتوجهاتها الدينية المحافظة رأت أن ثمة قضية أخرى لابد من إثارتها على رغم الظرف الحالي، إذ رأت «المجد» أن الفرصة مواتية لتصفية حساباتها مع المخالفين لها في قضية الاختلاط، لاسيما العلماء وطلبة العلم والكتاب والمثقفين، الذين دعموا مشروع جامعة الملك عبدالله وكانت لهم رؤية حديثة تجاه قضية الاختلاط. لقد أذكت قناة المجد منذ أكثر من شهرين الشرارة الأولى عندما أدانت وانتقدت وحرمت الاختلاط الواقع في جامعة الملك عبدالله، وذلك من خلال أكثر برامجها مشاهدة ومتابعة وهو برنامج «الجواب الكافي»، وحينها حاولت إدارة القناة أن تتملص من التبعات كافة بالادعاء بأن ما ذكر في البرنامج لا يمثل ولا يعبر عن موقف القناة، ولكنها الآن في ظل الظروف التي تمر بها بلادنا تعيد الكرة مرة أخرى، فعلى مدى الأسبوعين الماضيين أثار البرنامج ذاته قضية الاختلاط مجدداً والموقف منه، وذلك عبر ثلاث حلقات متتالية كان ضيوفها على التوالي الشيخ عبدالعزيز الفوزان، والشيخ ناصر العمر، ومعالي الشيخ صالح اللحيدان، ولم تتولد تلك الإثارة من أسئلة المتصلين، بل إن القناة سعت ابتداءً عبر مذيع البرنامج لطرح القضية بأكثر من صورة على مدى تلك الحلقات، لبيان الموقف من الفتاوى والآراء الشرعية التي أجازت الاختلاط، التي أصدرها عدد من العلماء وطلبة العلم. لقد سأل مذيع البرنامج الشيخ ناصر العمر عن الموقف من مثل تلك الفتاوى ومدى شرعيتها فأجاب الشيخ «بأن ما وقع هو فتنة وبلاء، وأن الذين قالوا أخيراً بإباحة الاختلاط آثمون آثمون آثمون، وخلافهم في المسألة غير جائز، لتمسكهم برأي شاذ وضعيف»، فعلى رأي الشيخ فإن ثلاثة من أعضاء هيئة كبار العلماء، وهم الشيخ الدكتور يعقوب الباحسين، والشيخ الدكتور قيس المبارك، ومن قبلهم وزير العدل الشيخ الدكتور محمد العيسى وعدد من قضاة التمييز وديوان المظالم كالشيخ المهيزع والغيث، جميعهم ارتكبوا إثماً مبيناً لمجرد أنهم أفتوا أخيراً بمشروعية الاختلاط وتفنيد آراء المحرمين له والتفريق بينه وبين الخلوة. كذلك طالبت القناة مؤسسة الإفتاء الرسمية بعدم الصمت تجاه هذه القضية وضرورة بيان موقفها، إذ سأل مذيع البرنامج الشيخ اللحيدان بصفته أحد كبار العلماء عن سبب صمت وسكوت الجهة الإفتائية الرسمية تجاه هذه القضية، فبرر الشيخ «بأنه بعد كثرة ما قيل وقيل لم يحصل اجتماع لهيئة كبار العلماء»، وأردف بعد ذلك قائلاً «رأيت في الجرائد كتابات لمحسوبين على طلبة العلم ما كان بودي أنها كتبت، وأحاديث ما كان بودي أن يكونوا قد تحدثوا بها، وكان ينبغي عليهم أن يستشيروا أهل العلم، ولا ينفوا شيئاً عرف أكثر طلبة العلم أنه موجود في كتب العلماء، وينفون وجوده، ومثل ذلك ما كان ينبغي صدوره من ناشئ في طلب العلم... فإذا لم يتحدث كبار أهل العلم وتحدث الشباب، حتى وإن كانت أسنانهم تقدمت نوعاً فما دام الإنسان لم يضبط لسانه ضبطاً جيداً فهو لا يزال في زمرة الشباب، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه»، وكذلك تداخل عبر الهاتف أحد الضيوف المعروفين بحظوته ومكانته لدى القناة معترضاً وساخراً بقوله «من حين لحين يخرج من ليس له علاقة بالعلم الشرعي، كالقضاة الذين خرجوا علينا، مبيناً أن دورهم مقصور داخل المحاكم ولا دخل لهم بالأحكام الشرعية»، بل إن القناة لا تزال تسعى لترويج القول بتحريم الاختلاط في جامعة الملك عبدالله واعتباره من المنكرات، إذ قال الشيخ عبدالعزيز الفوزان في سياق حديثه عن الجامعة «فكوننا نختلف في قضية جزئية في هذه الجامعة فإن ذلك لا يعني التعدي على كبار العلماء»، وذلك في إشارة منه إلى قضية الاختلاط فيها. وحتى لا أُتهم بالتحامل والتضليل، فلا بد من الإشارة إلى إن قناة المجد تطرقت عبر برنامجها المذكور إلى الإشادة بجهود رجال الأمن المرابطين على الحدود وإدانتها لتسلل تلك الجماعات الحوثية داخل الأراضي السعودية، ولكن تلك الإدانة كانت اللغة الطائفية الطاغي عليها واعتبار أن القضية يجب حسمها عقدياً، إذ أكد على ذلك الشيخ العمر بقوله «يجب الآن أن نفتح الطائفية، وأن أي معالجة للقضية إذا لم تكن معالجة عقدية فإنها ستبوء بالفشل في النهاية». ولتأكيد ذلك المعنى أشار إلى المذكرة التي أعدها ورفعها لهيئة كبار العلماء منذ أكثر من 25 عاماً، التي كانت تحت عنوان «واقع الرافضة في بلاد التوحيد». إن دولة إيران تسعى جاهدة لبسط نفوذها وتحقيق أطماعها في المنطقة، ومن تلك الوسائل الاستراتيجية في تحقيق ذلك الهدف لها هو التكريس والشحن الطائفي والسعي لنشرها في المنطقة لاسيما بين أبناء الوطن الواحد، لذلك فإن تلك الأطروحات الطائفية التي تفرق بين أبناء الوطن الواحد إنما المستفيد الأول والأخير منها هي الدولة الإيرانية. وفي مقابل ذلك كله لم تنطق القناة بأي كلمة، أو تنبس ببنت شفة عبر برنامجها الشهير تجاه البيان المتخاذل الصادر من جماعة الإخوان المسلمين «الذي طالبت فيه السعودية بالكف والتوقف عن قتال الحوثيين، في ظل تجاهل الانتهاك والتجاهل لاختراق حدودها والاعتراف كذلك بصورة أو بأخرى بشرعية الكيان الحوثي». لم يحرك ذلك البرنامج ساكناً تجاه الموقف الإخواني المتخاذل ولم يبد اعتراضاً عليه لا من قريب أو من بعيد، الأمر الذي يعطي دلالة واضحة على مدى التغلغل الإخواني لدينا في ساحة العمل الاسلامي، ولكن قضية كقضية الاختلاط وضرورة استنار الجهود والطاقات كافة من أجل الوقوف تجاهها وشحن عقول البسطاء للتحذير منها، لاسيما في الوقت الراهن، فهل هي أهم من تدخل في سيادة هذه البلاد وأمن شعبها يا قناة المجد!! * كاتب سعودي. [email protected]