يعتقد كثير من النخب الحاكمة في العالم أن إضفاء مسحة ديموقراطية على نظام الحكم قد يصبح في ظل الآليات المتغيرة للنظام الدولي الجديد «شرّاً» لابد منه. وأضحت تلك النخب – عسكرية ومدنية – تتفنن في استحداث واستنساخ آليات للحفاظ على جوهر وصايتها على شعوبها، مع المسحة الديموقراطية التي تقطع الطريق على كل انتقاد غربي. ولذلك تجرى انتخابات رئاسية ونيابية بكل ما يتطلبه ذلك من حملات انتخابية ودعائية، وتبصير للناخبين بحقوقهم، ودعوة مراقبين من شتى المنظمات الحقوقية في العالم. بيد أن النتيجة دائماً تأتي في مصلحة النظام النخبوي المتظاهر بالتحول إلى الديموقراطية، المدعي التخلي عن الوصاية، المثَّبت نفسه على دست الحكم بتحالفات قبلية وعشائرية ومهنية وسند عسكري يفرض بقوة السلاح ما يمحو الحبر الذي كتبت به التجارب والأفكار البشرية التي تضيء للشعوب الطريق إلى الحرية والرفاهية وتحقيق الذات الإنسانية. والنخب الحاكمة في عشقها الأبدي للصفوية والاستئثار بالسلطة ليست حكراً على منطقة بعينها في العالم. ليس في أفريقيا، بل في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية. إنه المزيج السحري الآثم: شراء الذمم والأصوات بالمال والمناصب والتخويف، وإجادة مخاطبة العالم الخارجي بلسان ثانٍ ينطق بالهوى الذي تريده القوى الغربية الكبرى التي يهمها الشكل لا الجوهر، يهمها أن ترى الممارسة الشكلية للعملية الانتخابية: صناديق اقتراع، مراكز اقتراع، لجنة عليا للانتخابات، محكمة للطعون الدستورية، لكن جوهر الممارسة الانتخابية لا يهمها في شيء، بدعوى أن لكل شعب على وجه البسيطة خصوصيته وعاداته وأعرافه. ولا تجد النخب الصفوة الحاكمة، خصوصاً التي تنهض على أكتاف الجند، غضاضة في إيجاد الحيل والسبل الكفيلة بضمان النتيجة التي تريدها من صناديق الاقتراع. من يستطيع أن يغالط أقطاب تلك النخب في أنها لولا تضحياتها واستئثارها بالحكم لغرقت البلاد في فوضى الجواسيس والمحتلين والمستعمرين الجدد، الذين لو ترك لهم الباب مشرعاً لأعادوا سيرة أسلافهم في نهب خيرات الشعب والانفراد بموارده الطبيعية وثرواته. وهل ثمة من هم أشد قدرة من منظري تلك الصفوات على تعظيم المخاطر، وتضخيم المخاوف؟ وهم في تلك الضلالة مستعدون حتى لخلق خوف متوهم على دين الشعب، وأخلاق القبيلة، وأعراف المجتمع. فلولا وقفتهم الباسلة في خندق الذود عن حياض الوطن لاندس في صفوف الأمة من سينال من دينها. خط أحمر وهمي قد لا يراه سوى القائل به من أقطاب الصفوات الحاكمة، فيصدع به آذان العامة حتى يأتي يوم يعلن فيه أن ذلك هو سنام «ثوابت» الأمة، وعلى من يريد لنفسه مكاناً تحت مظلة الديموقراطية الوليدة أن يُسلَّم بتلك الثوابت التي لا تقبل رأياً مخالفاً، حتى لو لم يكن الآخر يرى شيئاً من ذلك الخط الأحمر المتوهَّم. وشيئاً فشيئاً يقود ذلك التوهم الشرير إلى داء «التصنيف» الذي يقسم المجتمع المحكوم إلى فئات: عملاء وخونة ومرتزقة ومأجورون وسكان غير أصليين ومنافقون وعلمانيون وليبراليون. وتتناسل الأصناف فتفرَّخ مارقين ومندسين وطابوراً خامساً وأعداءً للدين وأسرى للثقافة الغربية والاستعمارية. وتأتي النهاية الحاسمة مثلما اشتهاها أقطاب النخبة الصفوية الحاكمة، وتستمر وليمة «الردح» وخطب النصر الإلهي الباهر وتهنئة الذات بالفوز المحتوم، بدعوى أنها إرادة الشعب، وكلمة صناديق الاقتراع، وانحياز الجماهير إلى برنامج الثوابت والوحدة الوطنية و«المشروع الحضاري» الذي لا يعرف أفراد الرعية شيئاً عن هياكله وأهدافه وأمده، وتنهال الشتائم و«الشماتات» على الخونة والعملاء وأعداء الدين من علمانيين وليبراليين. ويبتسم أقطاب الصفوة النخبوية المنتصرة ملء أشداقهم. كيف لا وقد استطاعوا بعبقريتهم الشريرة أن يخدعوا الغرب وفلاسفة الديموقراطية، أن يهزموا العقول الرصينة داخل بلدانهم المنادية بكلمة الحق والمساواة والعدل والإنصاف، وبأن الدين لله والوطن للجميع. يبتسمون إلى ما لا نهاية، إذ دان لهم الأمر بشهادة القوى الكبرى التي كانت تلهب ظهورهم بسياط النقد والتهديد والتقريع، وها قد صار بأيديهم أن يغرفوا ما شاء لهم المكيال من ثروات البلاد وخزائنها ومعادنها وأن يواصلوا برنامج مسخ العقول، وغسل الأدمغة، وتفصيل الدين بالقياسات التي يريدونها، وليخيطوا صكوك البراءة وأختام دخول الجنة بحسب ما يوافق أغراض برنامجهم الشرير. ستزدهي شاشات قنواتهم الفضائية بسيماهم التي يعرفها الجميع، الملتحية، وسحناتهم المنافقة، وستتردد على الأثير مزاعمهم بأنهم ظل الله في الأرض، ومبعوثو العناية الإلهية لإسعاد الشعب الذي لم يعرف تحت رايات حكمهم سوى الظمأ والجوع والفقر والمرض والانحلال الخلقي. هل هم أول صفوة في الخليقة يكتب لها الله طول البقاء على دست الحكم؟ إنهم ليسوا سوى عبرة ودرس للتاريخ، هم ماضون إلى نهاية حتمية مثلما يمضي كل ابن آدم ليكون على آلة حدباء محمول، وتبقى في الخليقة قصص عارهم وسوءاتهم وفسادهم وظلمهم. يصيرون عظة لأجيال مقبلة من أمم المعمورة، تاركين لشعوبهم عبء إزالة الضرر الذي خلفته سياساتهم الحمقاء على وحدة البلاد، ونسيج العلاقات بين مكوناتها البشرية. أكتب هذا وأنظر إلى أهوال أراها بأم عيني تُقبل على بلاد عزيزة على نفسي، أثيرة إلى قلبي. اسأل الله لها ولأهلها البسطاء السلامة من كل شر، والنجاة من أحابيل نخبتها الجشعة. * من أسرة «الحياة»