لأن فيلم «محادثة» عرض عام 1974، أي في العام الذي وصلت فيه قضية ووترغيت في أميركا الى ذروتها، مهيئة لإقالة ريتشارد نيكسون من منصبه كرئيس للولايات المتحدة، متهماً بأنه وراء التنصت على مركز للحزب الديموقراطي في منطقة ووترغيت التي حملت الفضيحة اسمها، رأى كثر من المعنيين والنقاد، وربما الجمهور كله، أن مخرج الفيلم فرانسيس فورد كوبولا، انما حقق فيلمه هذا انطلاقاً من الفضيحة نفسها. غير أن كوبولا كان أول المندهشين ازاء تلك المقاربة، وأول المنكرين لها. حيث قال مراراً وتكراراً إن ولادة الفيلم، فكرة وقصة وسيناريو وتطلعاً الى الانتاج كانت خلال النصف الثاني من ستينات القرن العشرين، وليس فقط قبل اندلاع فضيحة ووترغيت، بل قبل وصول نيكسون وإدارته الى البيت الأبيض. وكوبولا زاد أيضاً، أنه إذا كان ثمة من أمر فتح عينيه على تحقيق فيلم عن فكرة التنصت، فإن هذا الأمر كان فيلم «بلو آب» (تكبير) لميكيل انجلو انطونيوني، عن قصة قصيرة لخوليو كورتاثار. وإذا كان كوبولا قد قال هذا، فإن علينا أن نصدقه، حتى ولو رأى ملايين الآخرين أن ثمة في فيلم «محادثة» ما يمت بصلة مباشرة الى ما حدث في ووترغيت. ولعل في إمكاننا هنا، أن نعود مرة أخرى الى تلك الفكرة التي دائماً ما تخطر في بالنا حين تكون الحياة هي التي تقلد الفن... لا العكس. والحقيقة أن من يقرأ سيرة فرانسيس فورد كوبولا، ومسيرة أعماله، لن يكون في وسعه إلا أن يصدقه، فإذا كان هذا الفنان الذي عرف أنه مع حفنة من زملائه السينمائيين، قد غير السينما وبدّل هوليوود خلال سبعينات القرن الفائت، إذا كان قد كتب «المحادثة»، كسيناريو وحضّره كمشروع منذ مشاهدته «بلو آب»، فإنه اضطر لتأجيله أكثر من مرة، لا سيما حين وجد نفسه «ينساق» الى تحقيق الفيلم الذي تردد كثيراً دون العمل عليه أول الأمر، ثم حين حققه صار واحداً من أشهر وأفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما، ونعني به «العراب» في جزئه الأول. إذاً، بعد «العراب»، وبفضل النجاح الكبير الذي حققه «العراب» قيض لكوبولا أن يجد من ينتج له «المحادثة» الذي لم يكن الموزعون والمنتجون يعتبرونه أول الأمر مشروعاً رابحاً. إذ مَن ذا الذي أواخر الستينات من القرن الماضي وفي عز ثورات الطلاب وانتشار الفكر الفلسفي، كان يمكنه أن يعتبر فيلماً عن التنصت التقني مشروعاً ناجحاً. لاحقاً، حين اندلعت فضيحة ووترغيت، صار المشروع ناجحاً. ومن هنا لعبت الصدفة دورها. إذ، حتى وإن كان «المحادثة» واحداً من الأفلام المميزة في فيلموغرافيا كوبولا، فإنه كان من الصعب تصور فوزه بجائزة الغولدن غلوب، ثم بجائزة السعفة الذهبية لدورة عام 1974 لمهرجان «كان»، لولا البعد السياسي الذي طرأ عليه. ومع هذا، فإن «المحادثة» ليس فيلماً سياسياً، بل هو فيلم تشويق بوليسي - تكنولوجي، كما انه فيلم عن الارتياب، والعزلة المطلقة والخوف... عن نظرية المؤامرة في شكل أو في آخر. وتدور أحداث الفيلم من حول المدعو هاري كول، خبير قضايا التنصت (ويقوم بالدور في شكل رائع جين هاكمان)، الذي هو في الأصل شخص مصاب بأقصى درجات داء الارتياب، الى درجة أنه يبدو لنا بالتدريج مهووساً بالحفاظ على كل ما يمت الى خصوصياته بصلة، الى درجة أنه نادراً ما يحدث له أن يستخدم حتى هاتفه الخاص، زاعماً أمام الآخرين أن لا هاتف لديه... انه يستخدم دائماً الهواتف العمومية، وينقب في بيته في كل ساعة ولحظة، وينظر الى الناس جميعاً وكأنهم يتآمرون ضده. لكنه من الناحية المهنية مميز في عمله، مشهود له بالقوة والأمانة، وبأنه يلاحق القضايا التي يكلف بها حتى النهاية. وها هو الآن أول الفيلم وقد كلف من شخص ما، من طريق مساعد لهذا الشخص، كي يتنصت على ما يدور من محادثات بين رجل وامرأة... في البداية نراه يتنصت الى حديثهما، عبر وسائل تكنولوجية من الواضح أنه طورها بنفسه وأثبتت فعاليتها. وهو يسمع كل ما يقولانه وما يشي بأنهما عاشقان، وأن مدار حديثهما هو زوج المرأة. في البداية يبدو الحديث عادياً، لا سيما حين يلتقطه يدور في ساحة صاخبة وسط سان فرانسيسكو. غير أن هناك جملة تقال خلال الحديث، وتبدو غامضة أول الأمر، إذ يطلع فجأة صوت عزف موسيقي يغطي عليها، يفهم منها أن أحد الثنائي، يقول للثاني: ستكون كارثة لو علم بأمرنا... سيقتلنا. ولكن في وقت لاحق وبعد أن يشتغل كول على العبارة تقنياً مرات ومرات (تماماً كما يشتغل بطل «بلو آب» على الصور التي التقطها، مرات ومرات حتى خيل اليه في النهاية انه اكتشف جريمة من خلال تكبير الصور)، يخيل الى كول أن العبارة ليست كما كان يعتقد، بل انها تخفي في طياتها قلبة مسرحية شديدة الأهمية. ومنذ لحظة ذلك الاكتشاف، تزداد ريبة كول ويتغير مسرى الفيلم، خصوصاً أن الشريط يسرق (تماماً كما تسرق الصور من بيت بطل «بلو آب»)، ويبدأ كول تصوره انه هو المستهدف الآن، معتقداً أن في بيته عشرات الميكروفونات قد زرعت كي يتم التنصت عليه. وبهذا تكون نهاية الفيلم، حيث بعد أن يحطم كول كل شيء في شقته باحثاً عن الميكروفونات، كدليل، على المؤامرة التي تستهدفه هو الآن، نراه وحيداً بائساً يائساً في شقته يعزف حزيناً على آلة الساكسوفون التي يمثل العزف عليها الهواية الوحيدة في حياته. هذا هو، بسرعة، ملخص أحداث الفيلم. ولكن يتوجب علينا أن نشير هنا الى أن «محادثة» ليس فيلم أحداث، بل هو فيلم أجواء. إذ يمكن المتفرج الواعي والمهتم بالفيلم حقاً، أن يخمن منذ البداية كيف سينتهي الفيلم، طالما أن كوبولا، تعمّد أن يعطي بطله سمات شكلية وسيكولوجية خاصة، قد لا يكون من المبالغة القول إنها تبدو متناقضة تماماً مع المهنة التي يتعين عليه القيام بها. وهذه الخصوصية تهيئنا منذ البداية لأن ندرك أن ما سنتتبعه في الفيلم، ليس عملية التنصت نفسها، وليس الجرائم التي قد تنتج من رصد ما يفعله الآخرون، بل مسار كول في حياته ومهنته والعلاقة التي تقوم بين هذين. فالفيلم، إذاً، عن هذه الشخصية - تماماً، وهنا نعود مرة أخرى الى المقارنة الحتمية مع فيلم انطونيوني - عن تطور علاقتها بالواقع وبالحياة. وهذا ما يضعنا، من جديد، على الضد من كل أولئك الذين اعتبروا «محادثة» ولا يزالون يعتبرونه حتى الآن فيلماً عن «ووترغيت» وعن الرئيس نيكسون. لقد حققت أفلام عدة، سياسية أو غير سياسية عن ووترغيت. وأي من هذه الأفلام لم يأت شبيهاً، في الجوهر وفي المظهر ل«محادثة»... فالحقيقة اننا هنا في فيلم يتأرجح بين عوالم كافكا وعوالم انطونيوني. بل قد يتعين أن نقول إننا أمام فيلم، كان من أول الأفلام التي تناولت نظرية المؤامرة، ليس من ناحية البعد السياسي أو البوليسي الذي ترتبط به، بل من ناحية البعد السيكولوجي. وكوبولا لتأكيد هذا، جعل بطله (أو بطله - المضاد، إذا شئتم) حاضراً في كل لقطة ومشهد تقريباً، ما وفر لجين هاكمان واحداً من أقوى الأدوار التي لعبها في مساره السينمائي، وكشف، بعد أن تجلى ذلك جنينياً في الجزء الأول من «العراب»، أن كوبولا واحد من أفضل وأقوى محركي الممثلين في أفلامهم... ومن هنا لم يكن صدفة أن كثراً من نجوم المراحل المقبلة قد بدأوا العمل معه، من دي نيرو، الى آل باتشينو، ومن هاريسون فورد الى مات ديلون... وصولاً الى الأدوار الخالدة، طويلة كانت أم قصيرة، التي أعطاها لعملاق من طينة مارلون براندو. فرانسيس فورد كوبولا، الذي احتفل قبل أيام بالعيد السبعين لمولده، هو واحد من عمالقة جيل السبعينات في السينما الأميركية، الى جانب سكورسيزي ودي بالما ولوكاس وجون ميليوس وستيفن سبيلبرغ. وهو أتى الى السينما من الدراسة الجامعية والتلفزة... ولكن أيضاً من حب السينما نفسها. وإذا كان كوبولا قد أخفق في تحقيق أي نجاح بآخر أفلام له، فإن مجده التاريخي، الذي وضعه في المقدمة خلال الربع الأخير من القرن العشرين، له أسماء مثل: «العراب» بأجزائه الثلاثة، و«يوم الحشر الآن» و«محادثة» و«اللامنتمون» و«تاكر» و«برام ستوكر دراكولا» وغيرها من أفلام علّمت تاريخ الفن السابع... [email protected]