صار للبنان حكومة بعد خمسة أشهر من المخاض العسير. وبعد تحقيق «الإنجاز الكبير» يتمتع لبنان بحالة من الاسترخاء والأجواء الوفاقية، وهذا ما حرصت مختلف الفصائل اللبنانية على تكريسه من حيث تعزيز مكونات السلم الأهلي والتعايش المشترك حيث يتأكد يوماً بعد يوم أنه ليس باستطاعة أي فريق إلغاء الآخر من المعادلة اللبنانية. والسؤال البديهي، بعد تأليف الحكومة الحريرية والتفاهم – مع صعوبات – حول صيغة البيان الوزاري، وما يستتبع ذلك من نيل الثقة والتي ستكون مرتفعة ولا شك نظراً لتمثيل كافة الكتل النيابية في الحكومة الجديدة، إذاً السؤال المحوري هو التالي: هل تعني ولادة الحكومة الجديدة انتهاء المحنة التي عاشها لبنان على مر السنين منذ منتصف السبعينات وحتى الآن؟ إن الواقعية في التحليل تقودنا الى استنتاج واحد وهو أن ما توصل اليه مختلف الأفرقاء في لبنان هدنة سيكون عمرها وأمدها طويلين أكثر من أي فترة سابقة، مع الاحتفاظ بالحذر والحيطة مما هو آت على الساحة اللبنانية والتي عودتنا على المفاجآت. أول الكلام الذي قاله الرئيس سعد الحريري بعد انتهاء أزمة التأليف... «إن هذه الحكومة هي الأولى بعد الانتخابات. وقد أردنا أن تتكامل مع نتائج الانتخابات»، مشدداً على أن «هذه الحكومة وجدت لتعمل وليس لإقامة متاريس سياسية على طاولة مجلس الوزراء، بل ان هذه الطاولة صالحة لتبادل وجهات النظر بين مختلف الأطراف آملاً أن تكون فرصة للحوار بعيداً عن المزايدة». وعطف الحريري هذا الطرح مع توجه آخر له دلالاته عندما قال... «ان حكومة الائتلاف الوطني استثناء تجيزه الضرورة وليس قاعدة تبني أعرافاً دستورية». وقد أراد الرئيس الحريري من الإشارة الى هذه الناحية الاحتفاظ بالتمايز السياسي والعددي لتجمع 14 آذار (مارس)، ومحاولة احتواء الأصوات الغاضبة داخل تيار «لبنان أولاً» والتي نشأت مع العقبات التي رافقت تأليف الحكومة، حيث كان تفكير رئيس الحكومة والحلفاء الحفاظ على زخم الأكثرية (ولو النسبية) التي أسفرت عنها نتائج الانتخابات النيابية والتي أجريت يوم 7 حزيران (يونيو) الماضي. واستناداً الى ما أفرزته هذه الانتخابات انطلقت الدعوات داخل أوساط الأكثرية تصر على تأليف حكومة تضم الموالاة فقط على أن تبقى المعارضة في موقع المعارضة. وفي هذا المجال أشار الرئيس الحريري قائلاً... «أتمنى أن أكون يوماً في صفوف المعارضة لأمارس عملها». ومع التوصل الى صيغة توافقية على الطريقة اللبنانية، والتي قضت بتأليف الحكومة من مجموعة ممثلي الكتل البرلمانية تطرح من جديد سائر القضايا الأخرى المجمدة منذ فترة طويلة من حيث قيام مجلس النواب بدوره التشريعي، الى إعادة طرح صلاحيات رئيس الجمهورية، مع العلم بمدى إشكالية هذا الموضوع، والذي سيحال حكماً الى طاولة الحوار والتي سيعاد تأليفها مجدداً من جانب الرئيس ميشال سليمان. ومن المواضيع الخلافية، إن لم يمكن في طليعة هذه القضايا، مصير سلاح «حزب الله». وقد عثرت لجنة صياغة البيان الوزاري على بعض التعابير والمتضمنة ما يمكن تسميته ب «الغموض الخلاق». وفي هذا السياق طالب أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله بضرورة تكريس الأجواء الهادئة والتصالحية، ومن ذلك إشارته الى ترحيل هذا الموضوع الى لجنة الحوار ليناقش ضمن العنوان العريض: الاستراتيجية الدفاعية. ومثل هذا الطرح يعني تأجيل النقاش حول سلاح «حزب الله» الى وقت آخر، مع إصرار بعض أعضاء لجنة صياغة البيان الوزاري على التحفظ عن الاعتراف بصيغة من الصيغ المتداولة، والتأكيد على أن «قرار السلم والحرب يجب أن يبقى من مسؤولية الدولة اللبنانية فقط». ماذا يعني هذا الكلام على الصعيد العملي؟ يعني أن أعضاء الحكومة الجديدة ومن يمثلون تم «تجريدهم» من المتاريس طوال فترة عمر الحكومة الجديدة. وحول ما يثار من نقاط وسجال حول دور وموقع الرئيس ميشال سليمان كرئيس للجمهورية علّق الرئيس على الوضع القائم بالقول... «أنا لا أنتظر تصفيقاً من أحد، وأفضل العمل المنتج البعيد عن الضجيج والصخب. ان رئيس الجمهورية ليس زعيماً لطائفة أو لحزب، بل هو رئيس كل لبنان وعليه أن يتصرف انطلاقاً من هذا الفهم لموقعه». ويضيف... «كوني رئيساً توافقياً لا يعني أن همّي هو ألا يزعل مني أحد. أنا لي وجهة نظر في كل المواضيع التي تثار وأسعى الى إقناع الجميع بها، واستقطابهم نحوها متكئاً على صفتي التوافقية، لأن هذه الصفة تجعل الآخرين يثقون بي، مع الإشارة الى أن هناك مسائل لا يحتمل إخضاعها الى منطق التوافق بل هي محسومة عندي، انطلاقاً من كونها ثوابت غير قابلة للنقاش، ومنها ما يتعلق بالصراع مع اسرائيل، والعلاقة المميزة مع سورية ومراعاة الميثاقية في الحكم والعيش المشترك. أما الباقي فيندرج ضمن التفاصيل والجزئيات التي يمكن أن يطالها التكتيك السياسي». ولعل هذا الكلام يؤشر الى «خريطة الطريق» التي سيعتمدها الرئيس ميشال سليمان خلال عهده. ويضاف الى ذلك لجوء رئيس الجمهورية الى ديبلوماسية المصالحات والمآدب بين بعض الزعماء الذين فرّقت بينهم الخلافات. وللتأكيد على الأجواء الوفاقية السائدة بوجه الإجمال، التقى الوزير السابق وليد جنبلاط وزعيم تيار «المردة» سليمان فرنجية في قصر بعبدا وتوّج اللقاء بمأدبة غداء. كذلك ينتظر الاستمرار في هذا النهج تأكيداً لأجواء الوفاق والمصالحات، وعلى هذه اللائحة اسم العماد ميشال عون، وأسماء أخرى. وبعد... الصحيح أن لبنان تخيّم عليه أجواء تصالحية، وهذه رغبة كل اللبنانيين، الا الاطراف التي لا تتمنى الهدوء والاستقرار، علها تبقي على موقع لها مع استمرار حالة الاضطراب سياسياً وأمنياً. هذا على الصعيد اللبناني الداخلي، وماذا عن الوضع الاقليمي؟ هذا الوضع يسير الى مزيد من التصعيد العسكري منه والسياسي. وكأن المنطقة عادت من جديد الى «الصيغة البركانية» التي تشهدها من حين لآخر، كما يعيد هذا الوضع الى الأذهان فترات الحروب بالوكالة، والحروب بالأصالة، والحرب المستعرة في صعدة نموذج عن هذه الحقبة. ومثل هذه الحروب الفرعية تنضم الى الأزمات الكبرى التي تتخبط فيها المنطقة أو ما يطلق عليه اختصاراً... تداعيات الملف النووي الايراني. من دون أن ننسى المواجهات الأخرى الدائرة في غير جهة. وإضافة الى الحرب مع الحوثيين، هناك معركة انفصال جنوب السودان عن شماله، وهناك «العرقنة» المستعرة هذه الايام وقبيل اجراء الانتخابات العراقية، الى «الأفغنة» التي تنذر تطوراتها الأخيرة بتصعيد أكبر وأخطر ما يزيد في حالة الإرباك لدى القوات الأميركية والقوات الاسرائيلية المتحالفة معها. وهناك معلومات موثوقة ومتابعة عن كثب للمآسي الافغانية والتي تتحدث عن «استحالة تمكن قوات التحالف من الانتصار على حركة طالبان» حيث عملت هذه الحركة على اعادة تنظيم صفوفها من جديد، الأمر الذي يجعل القوات المشتركة في وضع أكثر صعوبة. وفي سياق الاتصالات (السرية) الجارية بين الجانبين الايراني والأميركي، تعرض طهران «خدماتها» على واشنطن لتأمين «الخروج المشرّف والآمن للقوات الأميركية المتواجدة في المنطقة» والتي يسقط لها بشكل يومي المزيد من الضحايا. هذا الواقع المعقد هو برسم الرئيس الأميركي باراك أوباما والذي بشّر المنطقة بمبادرات حوارية، قبل التفكير بأي نوع من الحروب. لكن السيد أوباما غرق باكراً في المستنقع الأميركي الداخلي. * كاتب وإعلامي لبناني