ها قد انتهت مباراة كرة القدم بين الجزائر ومصر بفوز الأولى (وكان يمكن أن يكون العكس)، دون أن تنقلب الدنيا وتحدث كوارث ومآس، كما انتهى إليه الشعور العام إثر التوتر الذي ساد على امتداد شهر، منذ تعيين خريطة التصفيات، ثم تصاعد في شكل هائل في الأسبوع المنصرم، حين حلّ موعد المباراة، حتى خال الناظر أن حرباً وشيكة ستقع بين البلدين. وفي هذا الصدد، كان من المتوقع تماماً ألا تنفع المناشدات الأخلاقية بأنّه «عيب» (وإن كان ما حدث عيباً حقاً، وبكل المقاييس)، ولا محاولات التعقيل التي تعيد الأمور إلى نصابها، ف «ما هي إلا لعبة والسلام»، كما قيل لجماهير كانت في غير وارد الاستماع إلى مثل هذا الكلام، لأنها منفلتة غضباً هستيرياً، متكتلة مجموعات مسلحة بالسكاكين والعصي، تبحث عن «الأعداء» لتلقينهم درساً. وعلى رغم ذلك، لا يمكن إلا تحية محاولات قام بها مثقفون من البلدين للتصدي لهذه الموجة العاتية والتي فاجأتهم، فنُظمت احتفالات مشتركة رمزياً، وتظاهر طلاب في جامعات الجزائر ومصر حاملين أعلام البلدين معاً، وصدرت عرائض مستنكرة انفلات هذا الجنون وانحرافه نحو خطاب وصف أحيانا ب «الشوفيني»، ولكن هيهات. ما ظهر في الواقع تجاوز ذلك بكثير، إذ لم يترك محرماً إلا وانتهكه، وداس كل ما يمكن أن يُرى اليه كثوابت مكتسبة، فأهان كل طرف الآخر بأكثر ما يمكنه من العنف، وطارت في سياق ذلك الثورة الجزائرية رغم هالة التقديس التي تحيط بها، وطارت مصر كركيزة كبرى متوافَق على أهميتها في هذه البقعة من العالم، وطارت علاقات تضامن كفاحية وتنموية متبادلة استمرت عقوداً، وبدا الأمر كأن قبائل متوحشة تتقابل. بل وصلت الحمى إلى بلدان الاغتراب، ففرض الجزائريون، وهم كثرة، «منع تجول» على المصريين في فرنسا لعدة أيام، وتحديداً في ضواحي المدن الكبرى كباريس ومرسيليا، ولم يخل الأمر من تخريب للممتلكات. أما في الخرطوم، وإستادها العملاق المسمى «المريخ» (هناك أحياناً محاسن صدف!)، فتطلب الأمر إنزال عشرات ألوف من رجال الشرطة منعاً لمذبحة بين جماهير من البلدين جرى نقلها مجاناً بجسور جوية، ووضعت طائرات النقل العسكرية في تصرف هذه المناسبة الوطنية الكبرى! وكان تحرك بالطاقة القصوى للصحافة في البلدين، وفق تنويعات تبدأ من أسفل السلم (والمنطق)، وتصل إلى تبادل محاجّات تبدو عقلانية ومحترمة، ولكنها تدور كلها حول من هو البادئ «الأظلم»، وتقول بلغة متأنقة، بخلاف لغة الرعاع، الشيء نفسه. أما الرؤساء والوزراء والمسؤولون في البلدين، على حد سواء، فبدا كأن السماء قد منحتهم فرصة لتجاوز لاشعبيتهم الكاملة، فقاموا بالنفخ في شعور «الافتخار الوطني»، وبدوا كمن يستعيد صلة ايجابية بالناس انقطعت مديداً، بل افترض أنها تبددت. وهم مارسوا ذلك بمباشرة صادمة، لم تُحط نفسها بأي قدر من التمويه، أو من الاحتياطات الديبلوماسية التي تتذكر عادة أن هناك «ما بعد» اللحظة المباشرة هذه. فقد كانت المناسبة ثمينة وفريدة، وإضاعتها ترف غير وارد! وذلك للقول إن افتعال السلطة المباشر للحدث، كما يقال انه جرى، لا يحيط به فعلياً بصورة كافية، وان «المرض» أعمق من ذلك. ثمة في البلدين، وفي عموم المنطقة، من شعر باليأس أو بالخجل. ثمة من ذكّر ب «شماتة» إسرائيل بنا، وثمة من نظّر لقوة الشعور الوطني مقابل شعور قومي يُعتقد أنه لفظ أنفاسه من زمن، وثمة من رأى في الحدث مجرد تنفيس ناجح لاحتقانات متعددة ومتراكبة، أو حرف لها عما يفترض أن تركّز عليه، وثمة أخيراً من خفف من وطء الصدمة مشيراً إلى تكرار وقوع مثل هذا لدى سوانا، وأنها حال معتادة وشائعة، فلا حاجة للاستغراب. وكل ذلك، على تناقضاته، فيه صحة. وإن كانت تبقى حقيقة خاصة بما جرى، هي المقدار غير المسبوق من الفجاجة التي طبعت كل تلك المظاهر، واحدة واحدة، مما قد يكون واشياً بتعرٍّ للبنى والعلاقات الاجتماعية من التفنن واللبوس اللذين يغلفانها عادة، ويخففان من نطق الظواهر بدلالاتها المباشرة: شيء يشبه سير المركبات على الحديد من دون دواليب مطاط باتت مهترئة، بل من دون أبواب وشبابيك، ولا أضواء... ولكن هناك صعوبة إضافية على كل مقاربة يظهر إلحاحها كلما تقدم إلى واجهة المسرح، بسبب تفجر أزمة معينة، حقل من حقول البنية الاجتماعية أو السلطوية. فالمثقفون يأنفون غالباً الاهتمام بعالم الرياضة. هم غرباء عنه كممارسة فردية بداية، إلا ما ندر مما لا يُعتد به. وإذا اقتنع واحدهم ببذل جهد جسدي، لجأ إلى «المشي السريع»، الحائز على خصائص لا تناقض عالم المثقف كما يراه... أو يتخيله. وهم، ثانياً، يتركون عالم الرياضة كافتكار وكتنظير، إذ يعتبرونه مكاناً لانفلات طاقات العامة ليس إلا، مما يؤشر إلى نخبوية متعالية، لكن والأهم من هذا، إلى خطأ فادح في تقدير ما يشكل مجالات الحيز الاجتماعي، حيث تُبنى علاقات السلطة، وحيث تترسخ الإيديولوجيا المهيمنة. ففي «اليومي» تحديداً يتم ذلك. وليس ما أحاط بلعبة الجزائر - مصر إلا دليل إضافي على أهمية الرياضة كمادة للسوسيولوجيا السياسية بامتياز. ومن بين كل الرياضات، تحوز كرة القدم مكانة خاصة جداً في هذا الصدد. فهي تجمع معاً كل الميزات التي تحيلها رمزياً إلى نقطة تقاطع بين العقد الاجتماعي والرابط الاجتماعي، كما قال أحد محلليها: هناك الفريق وليس الجهد الفردي، وهناك توزيع الأدوار والتراتبية، وهناك اللعب في الهواء الطلق، وأمام فضاء مفتوح وبحضور مباشر لعشرات الألوف (وإن كان في حيز جغرافي محدد، ووفق قواعد مسبقة)، وهناك الاختلاط العرقي والطبقي الذي يميز فرق اللعب، موحياً بتجاوز تلك الانقسامات، وهناك استعراضية ذات قدرة فائقة على إثارة الانفعال والحماسة. وهناك بالطبع كل البزنس العابر للقارات والمعولم حقاً، وعالم التفاوض والبيع والشراء، وعالم صناعة الأبطال... فهل من ينكب على درس هذا الذي جرى منذ أيام، بعيداً عن التعزير الأخلاقي؟! ومن ينشئ سوسيولوجيا للرياضة في جامعاتنا؟