واضح ان السباق في العراق اليوم هو بين التمكن من إجراء الانتخابات وبين النجاح في تأجيلها. وهذا التنافس هو بين قوى عراقية هذه المرة، وإن كانت جهات إقليمية مندرجة وراء القوى الدافعة في الاتجاهين المختلفين (إجراء الانتخابات أو عدم إجرائها). فالثامن عشر من شهر كانون الثاني (يناير) عام 2010، وهو الموعد الذي حددته مفوضية الانتخابات لحصولها، تحفه استحقاقات كثيرة، بالمعنى الزمني والسياسي والأمني. فعلى الصعيد الزمني هو يسبق بأيام قليلة شهر محرم الذي ليس في الإمكان إجراء الانتخابات خلاله بسبب انشغال الناخبين الشيعة بمناسبة عاشوراء وما يسبقها وما يليها من أيام تزدحم فيها الطقوس للمناسبة. مما يعني أن تأجيل الانتخابات أسبوعاً واحداً سيفضي الى استحالة إجرائها قبل شهرين، إذ تعتقد المفوضية أن موعداً قريباً من موعد انقضاء المناسبة سيعني محاولة استثمار المناسبة الدينية في الحملات الانتخابية، ولهذا الأمر عواقب لن تقتصر على نزاهة الانتخابات، انما قد تشحن الاحتفالات بالمناسبة بقدر من الاحتقان. على الصعيد الأمني، يعطي تأجيل الانتخابات فرصة للراغبين في التدخل الأمني مزيداً من الوقت للعبث، إذ من الواضح أن استهداف بغداد بتفجيري الأربعاء والأحد الداميين كان بالدرجة الأولى انتخابي، سواء لجهة التوقيت أم لجهة نوع الاستهداف. وعلى المستوى السياسي يمكن تسجيل تخوفٍ من التأجيل مرده الى هشاشة الاتفاق الذي جرى بموجبه إقرار قانون الانتخابات، مما يعني أن التأجيل يعطي مزيداً من الوقت لاحتمال الاتفاق مجدداً على التفاهم. ومن الأمثلة على ذلك ما يرشح من أخبار وتصريحات عن رغبات لا يبدو أن الوقت كاف لتحقيقها لجهة إعطاء مزيد من المقاعد للأقليات وللمهاجرين والمهجرين، مما يستدعي تعديل القانون. لكن لهذه اللوحة من الاحتمالات الناجمة عن تأجيل الانتخابات في العراق، ما يوازيها من وقائع سياسية تُمكن المرء من إدراج أصحاب المصلحة في تأجيل الانتخابات في معسكر واحد على رغم تباين مواقفهم وتحالفاتهم، وفي مقابلهم أصحاب المصلحة في إجراء الانتخابات على نحو سريع. يبدو أن كل القوى السياسية في العراق باستثناء تحالف رئيس الحكومة نوري المالكي مجمعة على أن مصلحتها تكمن في تأجيل الانتخابات. فالأطراف الشيعية تستشعر أن قوة المالكي التي ظهرت في الانتخابات المحلية قبل أشهر قليلة لم تتصدع بعد على رغم تفجيري الأربعاء والأحد، وهو أمر سيهدد من دون شك نفوذه في البرلمان المقبل. ويبدو أن الفشل في دمج ائتلاف دولة القانون (المالكي) والائتلاف الوطني العراقي (تحالف الأحزاب الشيعية) أصبح نهائياً، ورافقه فشل في إنشاء جبهة تضم الائتلافين من دون أن تدمجهما. ومن الواضح أن وراء الفشل الأول شعور المالكي بضعف خصومه الذين اشترطوا لعملية الدمج الموافقة المسبقة على المبدأ ثم البحث لاحقاً في توزيع المقاعد على القوى، في حين اشترط رئيس الحكومة اعتماد نتائج الانتخابات المحلية في عملية توزيع المقاعد. أما الفشل الثاني (جبهة سياسية تضم الائتلافين المتنافسين وغير المندمجين) والتي وافق عليها المالكي، وهي جاءت تلبية لرغبة المرجعية الدينية (السيستاني) ولا يبدو أن الإيرانيين قد تحفظوا عليها، فمرد فشلها اشتراطها أن يقبل الخاسر في الانتخابات من أحد طرفيها اعترافاً للرابح بحقه في رئاسة الحكومة. وهو ما دفع التيارات الشيعية الأخرى وبشكل خاص التيار الصدري ورئيس الحكومة السابق إبراهيم الجعفري الى رفضها. التأجيل يشكل فرصة للتيارات الشيعية المنافسة للمالكي، فالوقت في العراق يعطي فرصاً أكبر للفشل، خصوصاً على المستوى الأمني، وهو المستوى الذي يبدو أن المالكي استثمر فيه الى أبعد الحدود. فالوضع الأمني في بغداد وعلى رغم تفجيري الأربعاء والأحد تحسن الى مستويات غير مسبوقة، وانكار ذلك عصي على القوى السياسية المنافسة لرئيس الحكومة. ومثلما ستكون المنافسة في العراق في حال أجريت الانتخابات في موعدها ووفق المشهد التحالفي الذي يلوح اليوم، شيعية - شيعية، فهي أيضاً في أحد وجوهها الرئيسة سنية – سنية، فمن جهة هناك تحالف إياد علاوي وصالح المطلق، وهو ما يُسمى في العراق اليوم، من دون أن يكون دقيقاً، تحالف البعثيين السابقين، وهو يبدو انه تحالف قوي في الوسط السني ولا يخلو من حضور في بيئات شيعية مدينية، ومن جهة أخرى هناك الصحوات وانضواؤها في تحالف دولة القانون، وما يُشكل لها ذلك من فرص في الفوز. لكن المشهد السنّي العربي في العراق يبدو أكثر تذرراً من قرينه الشيعي، فثمة طرف ثالث منافس أيضاً وهو الحزب الإسلامي المنضوي في تحالف الائتلاف العراقي، وهذا الحزب هو اليوم أكبر ممثل للسنة في السلطة (نائب رئيس الجمهورية، ونائب رئيس الحكومة، ورئيس البرلمان)، وإذا كان ثمة من رصد تراجعاً في نفوذ هذا الحزب في مناطقه التقليدية، فإن انضواءه في الائتلاف العراقي قد يُحسن من حظوظه. لكن تشتت الصوت السنّي في العراق سيخدم بدوره المالكي، فهو لن يحرمه من حصة من المقاعد السنّية، لكنه سيحرم منافسيه من الاستئثار بهذه المقاعد، ناهيك عن أن المفاجأة الشيعية في الانتخابات المحلية (الابتعاد عن الأحزاب الدينية) قد تجد ما يوازيها في هذه الانتخابات في الوسط السني العربي. أي ابتعاد عن الحزب الإسلامي يفضي الى تصويت أعلى لمنافسيه (الصحوات وتحالف علاوي المطلق). للأكراد أيضاً ضالتهم في هذه الانتخابات، إذ انها الأولى أيضاً التي تجري بعد المفاجأة الكبرى التي شهدتها انتخابات برلمان إقليم كردستان، والتي تمكن فيها معارضون لتحالف الحزبين الكرديين، الحزب الديموقراطي والاتحاد الوطني، من الفوز بنحو ثلث المقاعد في هذا البرلمان. المسافة الزمنية بين الاستحقاقين (نحو أربعة أشهر) لم تكن كافية لاستدراك الأخطاء الكبرى في أداء الحزبين، والتي أفضت الى فوز المنشق عن الاتحاد الوطني نيشروان مصطفى وحلفاؤه الإسلاميين، بثلث المقاعد. وهو أمر يشغل على ما يبدو القيادة الكردية في الإقليم وفي بغداد. ويبدو أن المخاوف الكردية من نتائج الانتخابات البرلمانية العامة في العراق تتعدى الوضع الداخلي في الإقليم، فهي إذا ما جاءت نتائجها وفق المخاوف ستؤدي الى وصول مفاوض قوي في بغداد (المالكي) في مقابل مفاوض ضعيف في أربيل (مسعود بارزاني) سيتواجهان في ملفات لها علاقة على مستقبل مدينة كركوك وعلى عقود النفط وعلى المناطق المتنازع عليها في ديالا والموصل وغيرهما. وفي هذه اللحظة يعود المشهد العراقي للاهتزاز، ليس الأمني أو السياسي هذه المرة، بل الانتخابي. فاذا كانت مصلحة السنة العرب وتحديداً الحزب الإسلامي وصالح المطلق بوصول المالكي ضعيفاً، وذلك بهدف تعزيز فرص حلفائهما، فإن وصوله ضعيفاً سيعزز من الموقف الكردي غير المنسجم مع مطالبهم في كركوك وفي ديالا. وفي الوقت نفسه فإن وصوله ضعيفاً سيعني في حال كان بديله المجلس الأعلى (الحكيم) إعادة الأمل للطموحات الفيديرالية في الجنوب. أما إذا كان بديله الصدريون، فسمعة هؤلاء في الوسط السني مرتبطة بذاكرة ليست بعيدة حافلة بالوقائع الدامية. ويبدو والحال هذه أن المالكي هو الخيار الواقعي الأمثل للسنة العرب، في حال اعتبرنا أن إياد علاوي يسبقه ولكن مع قدر من غير الواقعية. يخلص المرء من لوحة على هذا القدر من التداخل والتعقيد الى ان المرحلة التي تفصلنا عن الانتخابات في العراق ستكون مسرحاً لمحاولات التأجيل المتكررة، ولكن أيضاً لمحاولات الصمود في وجه المساعي لتأجيلها. ومن الواضح أن قدرة المالكي على الوقوف في وجه التأجيل محدودة بالقرار الحكومي، فقوة الرجل في المجلس النيابي غير متناسبة مع قوته في الشارع وفي الحكومة، وقدرة خصومه على المناورة كبيرة. وفي هذا الوقت يبدو العامل الأمني الذي من المرجح انه بيد قوى خارج هذا المشهد كله مرشح بدوره للعب دور على هذا الصعيد.