جلس عبدالله منزوياً في ركن قصي من مقهى يقع في شارع رئيسي في مدينة البيضاء (1200كيلومتر إلى الشرق من العاصمة الليبية طرابلس) يحتسي قهوته في هدوء وقد استغرقه التفكير في مصير من تبقى من ذويه وأقاربه الكثر في درنة معقل تنظيم «داعش» الرئيسي والمدينة التي يخطط المتشددون لجعلها عاصمة لإمارتهم في إقليم برقة شرق ليبيا. وعلى الرغم من حالتَي الترقب والحذر اللتين أعقبتا تفجيرات انتحارية دامية نفذها التنظيم في مدينة القبة القريبة رداً على الغارات المصرية، تسير الحياة في شكل طبيعي في البيضاء التي يقدر عدد سكانها بأكثر من مئتي ألف نسمة وهي رابع أكبر مدينة في ليبيا وينتشر عدد من أفراد الجيش ومسلحون مدنيون في مواقع حساسة ويقيمون حواجز ونقاط تفتيش للحيلولة دون تسلل انتحاريين من درنة إلى مدينتهم التي تستضيف الحكومة الشرعية المنبثقة عن برلمان طبرق المعترف به دولياً والمنتخب في آخر اقتراع عام جرى العام الماضي. وعزز التوجس من حدوث تفجيرات أو أي محاولة أخرى لزعزعة الأمن، العثور غداة هجمات القبة على سيارة مفخخة أمام مستشفى المدينة التي قاتل المئات من أبنائها بشراسة وعزم من أجل إسقاط حكم العقيد الراحل معمر القذافي. ومنذ منتصف العام الماضي شكلوا مع مقاتلين من القبة والمرج وطبرق النواة الصلبة في القوة التي اعتمد عليها اللواء خليفة حفتر لدحر «أنصار الشريعة» وفصيل «درع ليبيا» الأصولي من بنغازي. وبدا عبدالله التاجر القادم حديثاً من درنة رغم شروده الذهني سعيداً بقدرته على فعل أشياء بسيطة أصبحت من المحرمات في موطنه الأصلي منذ أن احتله المتشددون الإسلاميون وفرضوا ما يعتقدون أنه تطبيق صارم لأحكام الشريعة الإسلامية فقد كان حليق الوجه ويدخن سيجارة تلو الأخرى ويعبر عن رأيه السياسي دون أن يخشى الجلد أو القتل كما هي الحال في درنة. لجأ عبدالله منذ أسابيع مع زوجته وأطفاله إلى المدينة المناهضة لإسلاميي ليبيا والمؤيدة لعدوهم اللدود اللواء خليفة حفتر الذي شن بدعم من شيوخ قبائل في شرق ليبيا هجمات على الميليشيات المتطرفة في بنغازي بعد سيطرتهم عليها ووعد بالقضاء عليهم أو نفيهم في معركة أطلق عليها اسم «الكرامة». ومثل عبدالله لجأ آلأف الليبيين من مختلف مدن البلاد إلى المدينة التي كانت من أوائل المدن التي ثارت على نظام القذافي وأصبحت منذ الصيف الماضي العاصمة الموقتة للحكومة المعترف بها دولياً بعد أن أحكمت قوات فجر ليبيا التابعة لتحالف أصولي قبلي مناطقي قبضتها على طرابلس الغرب إثر معارك طاحنة مع كتائب الزنتان الموالية لتحالف القوى الوطنية الليبرالي بزعامة محمود جبريل . وتغص فنادق البيضاء بالموظفين والمسؤولين الذين تدفع الحكومة الليبية الموقتة مصاريف إقامتهم في الوقت الذي يعملون فيه على ضخ دماء جديدة في شرايين دولة مفككة ومقسمة عملياً إذ تُدار من طرف حكومتين وبرلمانين أحدهما في أقصى الشرق والآخر في طرابلس الغرب. ويطمح مساعدو عبدالله الثني في بناء أجهزة بديلة للمصالح الحكومية في طرابلس التي تدار من طرف حكومة منافسة شكلها المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته. وفشلت حكومة الحاسي التي تشكلت بعد أن أحيت ميليشيات «فجر ليبيا» البرلمان السابق في الحصول على اعتراف دولي وتعتبر الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية والاتحاد الأفريقي أن حكومة عبدالله الثني المنبثقة عن برلمان طبرق المنتخب هي السلطة التنفيذية الشرعية الوحيدة في ليبيا. ويعمل موظفو حكومة البيضاء من مبان كانت في السابق مكاتب جهوية لبعض الوزارات والقطاعات الحكومية. وتسيطر حكومة الثني على مدن ومناطق أقل من تلك الخاضعة لسلطة حكومة طرابلس التي يشمل نفوذها غرب ليبيا بالكامل باستثناء مدينتي الزنتان والرجبان فضلاً عن مدن وسط ليبيا وأهم حواضر الجنوب الكبيرة مثل سبها. بيد أن عبدالله الثني رئيس الحكومة الليبية الموقتة يشدد على أن القوات الموالية لحكومته توجد في ضواحي منطقة العزيزية المتاخمة للعاصمة طرابلس وأنها تسيطر على قاعدة الوطبة العسكرية ومنطقة بئر الغنم الاستراتيجية وأن استعادة العاصمة من الإسلاميين ممكنة إذا ما رفع مجلس الأمن حظر بيع الأسلحة إلى ليبيا. وطلب الثني من المجتمع الدولي في أكثر من مناسبة تزويد قواته بالسلاح والذخيرة لمنع انزلاق ليبيا نحو حرب أهلية شاملة ومواجهة الإرهاب وخطر جماعات إسلامية متشددة تريد نقل المعركة إلى الضفة المقابلة من حوض البحر الأبيض المتوسط. ويتهم مساعدو الثني الغرب بالعمل على تمكين الإسلام السياسي الإخواني في ليبيا، وقال أحد كبار مستشاريه ل «الحياة»: «إنهم يراقبون كيف تصل إمدادات السلاح والذخيرة من تركيا وقطر إلى قوات فجر ليبيا المتحالفة مع القاعدة وداعش في حين يلوحون باستخدام حق النقض ضد قرار سيتيح لنا الدفاع عن أنفسنا وعائلاتنا وكرامتنا» وفق قوله. وتنتقد النخب العلمانية في شرق ليبيا بشدة ما ترى أنها ازدواجية معايير لدى الغرب في التعاطي مع القضايا العربية «ففي الوقت الذي يحارب فيه داعش في العراق وسورية ،يسكت عن جرائمه في ليبيا ولا يحرك ساكناً فيما يدعم تيار الإسلام السياسي الذي نشأ تنظيم داعش ليبيا في ظله» يقول أستاذ في جامعة بنغازي التي أضرم مقاتلو أنصار الشريعة النار في مكتبتها العام الماضي والتي توقفت فيها الدراسة للعام الثاني بسبب القتال الدامي في المدينة والمستمر في أسوأ موجة عنف تعرفها منذ سقوط القذافي. وكشف مسؤولون في حكومة الثني ل «الحياة» عن سيطرة الحكومة الشرعية على تسعين في المئة من حقول النفط بيد أنهم رفضوا تأكيد أو نفي سيطرتهم على عائدات النفط، مكتفين بالقول إن الحكومة الشّرعيّة هي من يملك حق التصرف في الأصول والأموال الليبية في الخارج، نافين تقارير غربية تحدثت عن وجود ليبيا الدولة الغنية بالنفط على حافة الإفلاس. وتعترف الحكومة الليبية الموقتة باستيلاء المتشددين الإسلاميين على حقول للغاز في غرب البلاد وعلى حقل نفطي بالقرب من سرت وتقول الحكومة إن أربعة من بين خمسة موانئ لتصدير النفط تسيطر عليها . وتستخدم حكومة الثني مطاراً صغيراً على بعد (18كلم) من مدينة البيضاء ويقع في بلدة الأبرق المجاورة في الربط بين المدن الموالية لها في بلد قطعت أوصاله الكيانات السياسية والعسكرية والقبلية المتنافسة على ثروات البلاد الهائلة من النفط والغاز. ويتسلل متشددون إسلاميون من مدينة درنة المحاصرة من طرف الجيش التابع للحكومة إلى غابات راس الهلال ويطلقون صواريخ حرارية وقذائف مدفعية لعرقلة حركة الملاحة الجوية في المطار الذي يشكل المنفذ الجوي الرئيسي للّيبيين إلى الخارج. وتوافقت أربع دول فقط على استقبال رحلات من المطار هي مصر وتونس والأردن وتركيا وتؤمن الرحلات شركتان ليبيتان فيما ألغت جميع شركات الطيران العالمية رحلاتها نحو ليبيا الغارقة في الفوضى والاقتتال الدموي منذ أربع سنوات.