تشير عبارة «لغة الجرائد»، في كتب أهل اللغة، إلى كل كتابة خرجت «عن قواعد الصياغة والتركيب التي ألفها العرب في لغتهم» وربما أومأت أيضاً إلى كل أسلوب متهافت، قلق العبارة، شذ لفظه «عن منقول اللغة، فأنزل غير منازله، أو استعمل في غير معناه». وجليٌ أن هذه العبارة تهجس بحنين البعض الى لغة آخذة في الزوال والاندثار، يعدها مبرأة من كل شائبة، تجري على سنن العرب في البيان والتعبير. هذه اللغة هي لغة التراث والذاكرة، قد وجدت، في نظره، كاملة مكتملةً بحيث يصبح كل خروج عنها عدولاً عن الأصل، وانتهاكاً للقاعدة. وجليٌ أيضاً أن هذه العبارة تهجس بخوف البعض من بروز لغة جديدة تخرج عن أساليب الإنشاء القديمة، وتؤسس لنفسها «أسلوباً مختلفاً» تمتح عناصره من أقاليم لغوية جديدة. والواقع أن «لغة الجرائد» هي اللغة التي لم تكتف باسترفاد اللغة الأم، تحافظ على نقاء عبارتها، وسلامة قواعدها، وإنما استرفدت لغات ثانية أخذت عنها طرائقها في تصريف ونظم الكلام. من هذه اللغات، اللغتان الفرنسية والإنكليزية، فإليها يعود الكثير من تراكيب لغة الصحافة وأساليب صياغتها وقد انعطف الباحث المرحوم إبراهيم السامرائي على هذه التراكيب المستحدثة فردّها إلى أصولها الأجنبية. وإذا كانت مناهضة أهل اللغة لاسترفاد الصحافة اللغات الأجنبية قوية شديدة، فإن مناهضتهم لاسترفادها العامية كانت أقوى وأشد، إذ عدوا كل ما يتصل بها بمثابة «الشوائب» التي ينبغي صيانة الأقلام منها، وتحدثوا حديث الساخر، عن لغة العامة وفساد عبارتها. وإنه لأمر ذو دلالة أن نلاحظ تخوف أهل اللغة من أن يكون الغلط أسرع في الانتشار من الصواب وأشد رسوخاً في العقول، لهذا وجب، في نظرهم، تداركه بالإصلاح والتقويم، وهذا ما نهضوا به حين عددوا الأخطاء المتداولة، وصنفوها، ثم أبانوا عن وجه صحتها. ومن بين هؤلاء الشيخ إبراهيم اليازجي صاحب مجلة «الضياء» الذي أصدر سنة 1888، والصحافة العربية ما زالت حديثة النشأة، مجموعة من المقالات بعنوان «لغة الجرائد» أبرز في مستهلها موضع الجرائد من الأمة، وما لها من تأثير في مداركها، وأذواقها، وآدابها، ولغتها، وسائر ملكاتها (وهذا التأثير كان ينسب، قديماً، إلى الشعر) ثم عرّج، بعد ذلك على الأخطاء التي تسربت إلى الصحافة فشوهت عبارتها، وذهبت بمواطن الحسن فيها، فعمد، مخافة أن تفسد اللغة «بأيدي الموكول إليهم إصلاحها» إلى الإشارة إلى وجوه تقويمها. وإذا راجعنا اليوم هذه العبارات التي عدها الرجل سنة 1888 خاطئة، لوجدنا أن أكثرها ما زال مستخدماً، متداولاً، لم يحل تنبيهه إليها دون شيوعها وانتشارها، بل إننا إذا استعرضناها اليوم بدت لنا، من أثر تكرار بعد تكرار، صحيحة بل فصيحة. وأول خطأ نبه إليه الشيخ إبراهيم اليازجي في مقالاته استخدام كلمة «تحوير» بمعنى تنقيح وتهذيب، وذلك في الكلام على المعاهدات والأحكام، مبيناً أن هذه اللفظة لم ترد في شيء من كتب اللغة، بمعنى من هذه المعاني، إنما التحوير في اللغة بمعنى التبييض، يقال حوّر الثوب بيّضه. واعتبر الشيخ اليازجي قول بعضهم «ينبغي عليك» خطأ فادحاً، لأن الأصل أن تقول «ينبغي لك»، وسخر ممن يكتبون «فعلت هذا لصالح فلان» والصواب أن يقولوا «في مصلحة فلان ومنفعته»، أما عبارة «حكمٌ صارمٌ» فهي، في نظره خطأ عظيم لأن الصرامة، في كل المعاجم، تعني الشجاعة. ونبه إلى أن مفردة «الجنحة» بالضم - وهي الذنب اليسير - لم ترد في اللغة إنما جاء الجناح بمعنى الذنب. كما أشار إلى أن عبارة «صادق المجلس على كذا»، بمعنى أقره، ووافق عليه، ليس لها أصلٌ في اللغة، وإنما يقال صادقته من الصداقة. وقال إن عبارة العراء في قولهم «يشكون الجوع والعراء» خطأ من أخطاء العامة والأصل أن يقولوا «العري»، واعتبر كلمة «المنتزه» غريبة عن اللسان العربي، والصواب أن يقال «متنزه»، فالعرب قالوا خرج يتنزه ولم يقولوا خرج ينتزه، أما قولهم «رضخ له» أي أذعن وانقاد فلم يرد في معاجم اللغة، وإنما الرضخ هو «كسر الشيء اليابس»، يقال رضخ الجوزة ورضخ رأس الأفعى. كان الشيخ اليازجي يعتقد أن الصحافة لا بد من أن تتجنب، بعد نشر مقالاته، تلك الأخطاء فلا تكررها، لكنه لاحظ أنها – أي الصحافة - لم تكترث لتلك المقالات وظلت تردد الأخطاء نفسها غير عابئة بوجوه التقويم التي جاءت فيها. ولئن ظل الكثير من أهل اللغة يقولون بالخطأ والصواب، ويعمدون، كل مرة، إلى تقويم أخطاء الصحافة، فإن فريقاً منهم قال بالتطور، وذهب إلى أن لغة الصحافة هي تحديثٌ للغة العربية وتجديد لبناها وتراكيبها، بل إن الباحث «إبراهيم السامرائي» ذهب إلى أن لغة الصحافة تمثل «ضرباً جديداً من العربية» ومن جديدها بعض ملامح من نحو وصرف جديدين، وانصراف الكثير من الكلمات فيها إلى معان جديدة. لا نريد في هذه الزاوية أن نستعرض مختلف مواقف أهل اللغة من «لغة الصحافة»، فمعظمهم أصبح يقر بقانون التطور، يسوغ العدول عن لغة الأسلاف كما يسوغ البحث عن آفاق تعبيرية جديدة، لكننا نريد أن نتأمل أثر لغة الصحافة في لغات أخرى تعد مختلفة عنها اختلاف تباين وافتراق، ولعل أهم هذه اللغات وأولاها بالنظر «لغة الشعر». أجل ان لغة الصحافة، هذه التي أمعن أهل اللغة في نقدها، قد أثرت، في اعتقادنا تأثيراً حاسماً في لغة الشعر الحديث بل ربما ذهبنا إلى أن هذه اللغة - أعني لغة الصحافة - هي التي أتاحت للشعر الحديث أن يخرج على النظام البياني بكل ما ينطوي عليه من قوانين وقواعد، ويستشرف ذرى تعبيرية جديدة. * شاعر وناقد تونسي