أصبح المدخل الإنساني إحدى أبرز أدوات الضغط السياسي في الآونة الأخيرة وجسراً يمكن أن تعبر عليه بعض القوى للتدخل في قضية هنا أو محاصرة دولة هناك. وجاءت أزمة دارفور لتكرس الناحيتين معاً، حيث كانت تقارير المنظمات الإنسانية العاملة في الإقليم مقدمة لتسليط الأضواء عليه والاقتراب من مفاصله الرئيسة. وبدت الخطورة في السلبية التي نضحت بها التقارير الإنسانية وخرجت إلى أرجاء المعمورة، وتهوين الحكومة السودانية مما شاهده وسمعه وقرأه الناس عن الأزمة وفصولها المأسوية. وهو ما استخدمته بعض الجهات كغطاء لتحقيق أغراض أمنية وأهداف سياسية. وضعت في النهاية السودان ونظامه في موقف حرج، عندما استندت مذكرة المحكمة الجنائية لتوقيف الرئيس عمر البشير على مشاهد وتقارير أشارت إلى مسؤوليته عن جملة من الانتهاكات الإنسانية. عند هذه اللحظة الفارقة، أخرجت الخرطوم إلى العلن ما كانت تردده على استحياء سابقاً. وقامت بإبعاد 13 منظمة إنسانية، قالت إنها نشطت في أعمال تتعارض مع مهماتها الرئيسة وتضر بالأمن القومي السوداني، متهمة إياها بالتعاون مع المحكمة الجنائية، وإعداد تقارير سياسية وتقديم معلومات استخبارية، من خلال تجنيد مواطنين في دارفور وإغرائهم بالأموال. وأكدت الحكومة امتلاكها أدلة دامغة، مثل توقيفها ثلاثة شهود نقلتهم منظمة «أطباء بلا حدود» الهولندية – شملها قرار الطرد – إلى لاهاي لتوظيفهم ضد الحكومة السودانية. ومن بين المنظمات التي أعلن عن طردها: «كير» الأميركية و «أوكسفام» و «سيف ذي تشيلدرن» البريطانيتان و «أطباء بلا حدود» و «تحرك ضد الجوع» الفرنسيتان و «المجلس النروجي للاجئين». وبحسب الإحصاءات الرسمية يوجد حوالى 258 منظمة تعمل في مجال الإغاثة الإنسانية في السودان، لديها نحو 1600 موظف أجنبي، بخلاف 15 ألف موظف محلي. اعتراف الأممالمتحدة بأن المنظمات ال 13 (المطرودة) تقدم نصف المساعدات، ضاعف من التكهنات التي تتناثر حول المنظمات الانسانية عموماً. فإذا كانت 13 منظمة فقط تقوم بهذا الدور الكبير، فما هي مهمة عشرات المنظمات التي تدخل وتخرج من دارفور من دون ضابط أو رادع؟ وأوضحت المنظمة الدولية أن رحيلها – طردها سيترك 1.1 مليون شخص من دون غذاء و1.5 مليون شخص من دون رعاية طبية وأكثر من مليون شخص سيحرمون من مياه الشرب. لذلك يمثل هذا النقص تحدياً كبيراً للمنظمات الباقية والخرطوم على حد سواء. فالأولى، مطالبة بمحاولة سد العجز حتى لا تعود الأزمة الإنسانية إلى سيرتها الموجعة التي ظهرت عليها في بدايات تفجر الصراع في الإقليم. والثانية (الخرطوم) مطالبة بالوفاء بقدرتها على سد النقص، فقد شدد الرئيس البشير قائلاً: «لدينا اللحم بأنواعه المختلفة والذرة والبامية نأكل منها ولا نحتاج إلى أحد». لم يمر قرار الطرد مرور الكرام، وأحدث صداه في دوائر إقليمية ودولية متباينة. وبدت منقسمة إلى فريقين متقابلين. ظهرت صورة التضاد بجلاء في مجلس الأمن، عندما أحبطت الصين والدول الأفريقية الأعضاء في المجلس، محاولة فرنسا المدعومة من بريطانيا والولاياتالمتحدة، إصدار بيان رئاسي يدعو السودان للتراجع عن القرار. وكشفت المواجهة عن حقيقتين. الأولى، ارتفاع درجة الانقسام في شأن آليات التعامل مع السودان. واحتفاظ الصين بهامش حركة بعيداً من الدوران في فلك الدول الغربية وحساباتها المعقدة حيال السودان. وربما يضبط هذا الهامش بعض الأمور التي اختل توازنها خلال الفترة الماضية، حيث ظهرت بكين وكأنها منحازة ضد السودان في غالبية قرارات مجلس الأمن. وتكمن أهمية التوازن في عدم استبعاد إيجاد فرصة للتسوية عبر مجلس الأمن والتوصل الى تفاهمات لتفعيل المادة 16 الشهيرة. الحقيقة الثانية، تصاعد دور الهيئات الإنسانية في منظومة التفاعلات الدولية، والحرص على رعايتها وحمايتها وتوظيفها من بعض القوى الغربية. فالمسألة لا تتعلق بطرد 13 منظمة أو أكثر من دارفور، لأن هناك عشرات المنظمات تمارس دورها في الإقليم وغيره من الأقاليم السودانية، لكنها تخص المبدأ الذي على أساسه تدفق غالبيتهم إلى دارفور. فالمنظمات الإنسانية أضحت رافعة سياسية لا غنى عنها في الوقت الراهن، لأنها تعطي تفسيرات وتقدم مبررات التدخل في أزمة وتتجاهل غيرها. كما أن عملها يدغدغ مشاعر الناس في الإقليم الذي تنشط فيه، باعتبارها الجهة التي تتولى تقديم العون المادي وتوفر الغطاء المعنوي. المشكلة أن بعض المنظمات ارتكبت أخطاء في تصرفاتها وكشفت عن ازدواجية في إجراءاتها، عززت من الشكوك في أهدافها الإنسانية ونياتها السياسية. ويمثل ما حدث في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007 فضيحة بكل المقاييس الإنسانية، حيث أحبطت السلطات التشادية محاولة تهريب 103 أطفال قسراً، من دارفور وشرق تشاد إلى فرنسا، برعاية منظمة وقعت في أخطاء عدة، أبرزها دخولها تشاد بصورة غير قانونية، فقد تم تسجيلها باسم «إنقاذ الطفولة»، الأمر الذي يعد مخالفة للقانون الخاص بسلوك المنظمات الإنسانية غير الحكومية. وفي الوقت الذي ادعت المنظمة أن الأطفال مرضى ويتامى ستقوم بعلاجهم وإيوائهم، ظهروا على شاشات الفضائيات أصحاء. وأكد ذووهم أن المنظمة أقنعتهم بأن أطفالهم سيرسلون إلى مدارس معدّة لحفظ القرآن وتعلم اللغتين العربية والفرنسية. من جهة ثانية، درجت معظم المنظمات الإنسانية على تحميل الحكومة السودانية مسؤولية التدهور الحاصل في دارفور وغض الطرف عن كثير من الانتهاكات التي ارتكبها المتمردون في الإقليم، مثل ابتزاز بعض الفصائل برنامج الأغذية العالمي لحمله على تقديم كميات كبيرة من المساعدات، تدعو إلى الشك بأن دافعهم هو بيعها. وفي آذار (مارس) 2006 ذكر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة أن «جيش تحرير السودان» اختطف ثلاث سيارات تابعة لمنظمة غير حكومية. وخلصت الأممالمتحدة إلى أن الاستيلاء على سيارات القوافل الانسانية يجري بهدف تحويلها إلى منصات قتالية. لم تتوقف تجاوزات المتمردين عند هذا الحد، بل تزايدت لدرجة أن يان برونك الممثل الخاص لسكرتير عام الأممالمتحدة هدد في 28 نيسان (ابريل) 2008 بتعليق مساعدات المنظمة الدولية في دارفور «ما لم تتوقف تماماً هجمات المتمردين ضد الأممالمتحدة والعمليات الإنسانية الأخرى». ولأن هجمات عدد كبير من الفصائل لم تتوقف، لجأت بعثة الأممالمتحدة إلى التعامل بواقعية واضطرت في أحيان كثيرة إلى رشوة المتمردين للابتعاد من قوافلها. ومع ذلك لم تجرؤ المحكمة الجنائية الدولية على المطالبة بتوقيف أحدهم أو لوم أي قائد منهم. على خلفية أزمة دارفور، تشكلت بعض التنظيمات التي أحسنت قراءة الأبعاد الإنسانية وسعت إلى استغلالها لتحقيق جملة من المرامي السياسية. وعندما قامت الحكومة بطرد 13 منظمة بذرائع أمنية وسياسية لم يلتفت كثيرون إلى الجزء المخفي في المسألة، والخاص بوجود أصابع خفية لإسرائيل أخذت تعبث في الإقليم. مع أن هناك شكوكاً كثيرة في نظرية المؤامرة، إلا أن ثمة شواهد تفرض علينا مراجعة هذا الموضوع، في مقدمها تصريحات بعض المسؤولين السودانيين وتلميحاتهم. وأهمها ما قاله مصطفى عثمان إسماعيل مستشار الرئيس عمر البشير في 8 آب (أغسطس) 2004، حيث أشار إلى أن المعلومات التي لدى بلاده تؤكد وجود دعم إسرائيلي، موضحاً أن الأيام المقبلة ستكشف عن اتصالات إسرائيلية مع المتمردين وأن تل أبيب دخلت إلى قضية دارفور من جوانب عدة. ولم يؤخذ هذا الكلام على محمل الجد إلا عند ظهور بعض الحقائق، أهمها إعلان عبدالواحد نور رئيس أحد أجنحة «حركة تحرير السودان» في شباط (فبراير) 2008 عن افتتاح مكتب لحركته في إسرائيل. وبعد حوالى عام قام بزيارة إلى تل أبيب وعد خلالها بتطبيع علاقات الخرطوم معها عندما يصل إلى سدة الحكم في السودان. الحاصل أن ما يسمى ب «تحالف إنقاذ دارفور» يلعب دوراً مهمّاً في كثير من التوجهات والممارسات التي ظهرت في السودان. وهو يضم عشرات المنظمات السياسية والحقوقية والدينية وتم تدشينه في مؤتمر عقد في نيويورك في 14 تموز (يوليو) 2004، وأعدت له منظمة اليهود الأميركيين للخدمة العالمية والمتحف التذكاري للهولوكوست في الولاياتالمتحدة. وأثار الوجود اليهودي المكثف تساؤلات متعددة، عززت المخاوف التي بدأت تتسرب إلى بعض التصورات والتصرفات. مثل اعتياد التحالف تنظيم زيارات إلى دارفور بحجة مناقشة قضايا حقوق الانسان، شارك فيها رياضيون من أمثال جوي شيك بطل التزحلق على الجليد ونجلا لاروب بطلة العدو، ونجوم فنيون، مثل جورج كلوني ودون شيدل. في ضوء المعطيات السابقة، سيتزايد توجس السودان من دور المنظمات التي تعمل في الحقل الإنسانى. وبدلاً من أن تصبح جزءاً من تخفيف الأزمة تتحول إلى مشكلة كبيرة، لا تستطيع الخرطوم إنهاء مهمتها وتحمل ما يترتب عنها من تكاليف سياسية، ولن تتمكن من القيام بدورها وما يصاحبه من تبعات مادية. لذلك عندما يغلب السياسي على الإنساني تتداخل الرؤى وتتشابك الخيوط وتتعقد الحلول. * كاتب مصري