بدأ الموسم الثقافي الراهن في بغداد بعرض مسرحي هو الأول بين عشرة عروض أعدتها دائرة السينما والمسرح لهذا الموسم. أما على صعيد الفن التشكيلي فبدأ الموسم بمعرضين أقيم الأول منهما في قاعة «حوار» للفنانين يسرى العبادي وستار درويش، وأقيم الثاني في قاعة «مدارات» للفنانة نضال الآغا. ومع التميز النسبي لهذه الأعمال، فإن أصحاب الشأن في العمل الثقافي في العراق اليوم لا يتحدثون بإيجابية عما سيكون عليه الموسم الراهن. شفيق المهدي، مدير عام دائرة السينما والمسرح يصف مؤسسته بالضعيفة، على رغم كونها أكبر المؤسسات الثقافية في العراق، كما يقول. إلاّ أنه يحاول تأكيد حضور المؤسسة من خلال تقديم العروض المسرحية واستعادة جمهور المسرح إليه بعد أن افتقده في أعوام الاضطراب الأمني الذي عاشته بغداد. فهو، كما يؤكد ل «الحياة»، يحاول تفعيل دورها كمؤسسة راعية للفن، وإن اقتصر عمله الحاضر على المسرح مشدداً على أهمية عودة هذا المسرح الى جمهوره العربي من خلال المشاركة في المهرجانات المسرحية العربية. ويحاول في السياق ذاته أن يعيد المسرح العربي الى العراق من خلال استعادة بغداد دورها في إقامة المهرجانات الخاصة بذلك والتي ستكون البداية فيها من مهرجان مسرح الطفل الذي تعد المؤسسة لإقامته أواخر العام الحالي. وسيتم افتتاح منتدى المسرح الذي يعول عليه كثيراً في تنشيط الواقع المسرحي العراقي، بعد تخطي مسألة العرض الواحد التي أحاطت معظم العروض المسرحية في المواسم السابقة. أما المسرحيات التي تقدم في هذا الموسم فسيكون من بينها النص العراقي والعربي فضلاً عن نصوص معدّة عن أعمال عالمية. أما السينما، فبعد فيلم «كرنتينا» (وهو اول فيلم روائي تنتجه المؤسسة بعد عام 2003) تجد المؤسسة نفسها غير مهيأة مالياً لإنتاج أفلام أخرى، ما خلا بعض الأفلام القصيرة، روائية ووثائقية. وإذا كان جانب السينما يبدو مكبلاً بأكثر من قيد، فإن الفن التشكيلي يبدو على نصيب أكبر في التحرر من مثل هذه القيود المعوقة. لكن مدير قاعة «حوار»، وسكرتير جمعية الفنانين التشكيليين قاسم سبتي يجد أن غياب الأسماء الكبيرة عن الساحة التشكيلية لا يزال واضح السلبية في هذا المشهد. والأكثر سلبية، كما يؤكد، هو غياب الدعم الحكومي لعمل الفنان في هذه المرحلة. ويشير الى ان معظم قاعات العرض ما زالت مغلقة بسبب هجرة العائلات البغدادية الداعمة للفن من طريق اقتناء الأعمال الفنية مما كان يساعد الفنانين على الاستمرار. يحمّل الفنان سبتي الوضع الأمني جانباً كبيراً من مسؤولية التراجع هذا الذي تسبب في هجرة عديد الفنانين العراقيين الى الخارج (زهاء تسعين في المئة من أبرز الفنانين العراقيين يعيشون اليوم خارج العراق) بعدما وجدوا الوضع الأمني، الذي لا يزال قلقاً، غير ضامن لحياتهم كما أنه غير مساعد على استمرار العطاء. إلاّ أنه يجد أن غياب الفنانين الكبار هذا عن الساحة الفنية العراقية اتاح فرصة الظهور لفنانين شباب ظهروا في الحقبة الأخيرة، وبعضهم أخذ مداه الفني فكانوا نقطة الضوء في بحر العتمة هذا، على تعبيره، ويشير الى اسماء مثل أحمد نصيف، وباقر الشيخ، ويسرى العبادي، وستار درويش، وجعفر محمد، وهايدي فاروق، وآخرين، يجد أن حضورهم من خلال أعمالهم الفنية أعطى دفعاً للاستمرار في العمل، وإلاّ - يتساءل الفنان سبتي - «ما الجدوى من إقامة معارض تكلفنا مبالغ وجهوداً مضنية؟». لكنه يجد أن الواقع في وجه عام يمر في فترة تراجع. فهناك، كما يشير، ثلاث قاعات أهلية فقط تستقبل أعمال الفنانين اليوم في بغداد (هي «حوار» و «مدارات» و «أكد»)، والبقية أغلقت ابوابها منذ الأيام الأولى للاحتلال. أما القاعات الحكومية (قاعات مركز الفنون) فهي، كما يصفها «جادة في استعراض تجارب موظفيها، ومنشغلة عن واجبها الأساس برعايتهم بديل رعاية الفن في عموم البلاد». جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين هي، كما يقول، بصفته سكرتيراً عاماً لها، «الوحيدة التي تقيم المعارض لفناني العراق جميعاً من خلال فروعها الأربعة عشر في بغداد والمحافظات، فضلاً عن المعرض السنوي الذي تقيمه في نيسان (ابريل) من كل عام وهو يضم أعمال أكثر من 100 فنان يمثلون مختلف أجيال الفن العراقي واتجاهاته الفنية». وزارة الثقافة اعتادت خلال السنوات الماضية، التي أعقبت الاجتياح، أن تكتفي بنشاط إثنتين من مؤسساتها، وهما دائرة السينما والمسرح، ودار الشؤون الثقافية، فتكفي نفسها مشقة ما كان يسمى بالنشاطات المركزية. ف «مركز الفنون»، الملحق بمبناها، يكاد يتحول الى «مشروع أثري»، و «مهرجان المربد الشعري» صارت تتنازع عليه مع اتحاد الأدباء، وفي دورته الأخيرة انتقل تنازع «السيادة» عليه بين كبار الموظفين ما انعكس سلباً على الواقع الشعري، العليل أساساً، للمهرجان. ولعل «المنجز» الذي قدمته الوزارة في الموسم الثقافي الماضي وتتابعه في الموسم الحالي (وقد يكون مسنداً إليها من جهة أعلى)، هو فرض الرقابة على الكتب والمطبوعات الآتية الى العراق من الخارج، والمطبوعة في الداخل، كجزء من التضييق على حرية الفكر والتعبير. وكان لهذا الأمر أن ساعد في تنامي عمليات تزوير الكتب المطبوعة خارج العراق فانتعشت سوق الاستنساخ الذي أوجد مكاتب خاصة عوضت نسبياً عن المطابع وعمليات الاستيراد في توفير الكتاب المطلوب من القراء. والسؤال هنا هو: هل إن هذا كله، بتعدد مناحيه السلبية منها والإيجابية واختلاف وجوهه، يمكن أن يقيم حياة ثقافية صحيحة التكوين وسليمة المبنى والتوجه، تستطيع أن تساهم في بناء صرح واقعي لثقافة تحقق الوجود المرجو منها؟ إنه السؤال الملح، فهو إذ ينفتح إنما ينفتح على واقع خرب: واقع لا ينفتح على ما هو كبير من القضايا والمشكلات التي يمر بها المثقف ويعيشها، بكل ملابساتها، ولا ما يمر به إنسان هذا الواقع المأزوم بما افرزه الاحتلال والقليل والبسيط الذي يقدمه لا ينشغل حتى بما من شأنه تطوير عملية الإبداع من خلال تطوير حركية الإبداع ذاتها. وهناك، بديل عن هذا كله، هامشية واضحة، وتشتت يصل حد الشرذمة، ونكوص، وخيبة أمل تعيشها النفوس اليقظة، والمحاصرة في الوقت ذاته بالاحتلال ومؤسساته، مع عدم إغفال الإشارة الى بعض الجهود والمنجزات الفردية التي لا تزال قليلة، لكنها موجودة وحاضرة.