ما الذي يدفع مئات اليهود المتحدرين من أصول مغربية، وتحديداً من مدينة فاس العريقة، الى العودة اليها في تظاهرة حاشدة ذات طابع روحي وثقافي. ليس الأمر جديداً بالنسبة الى افراد الطائفة اليهودية المغربية المنتشرين في شتى اصقاع العالم، والذين يتخذون من مزارات مقابر اجدادهم ورموز هويتهم وبيوتهم مبررات للعودة. لكنها لم ترتد في أي فترة طابعاً سياسياً في حجم كثافة الهجرة نحو اسرائيل. والتي قلصت اعدادهم من مئات الآلاف في منتصف القرن الماضي الى بضعة آلاف حالياً. لم يحدث في سلاسة التعايش القائم بين المغاربة، مسلمين ويهوداً يتحدرون من أصول عربية وامازيقية وافريقية، ان طرحت اشكالات ازاء كيفية التعاطي مع هذه الظاهرة التي يمتد أثرها الى قرون طويلة. وباستثناء فترات عصيبة فرض فيها على السكان اليهود نظام الفدية والابتعاد من السكن الى جوار المساجد، استطاعت شخصيات يهودية ان تجد لنفسها مواقع في السلطة الى جانب فقهاء وعلماء وقضاة ومثقفين. الى بداية استقلال المغرب كان اختيار شخصيات يهودية في المجلس الاستشاري الذي رأسه المعارض الراحل المهدي بن بركة دليلاً على امتداد تعايش تلقائي، ولم يكن أي حرج في تولي يهود مسؤوليات حكومية. كان آخرها وزارة السياحة التي اسندت الى رئيس الطائفة اليهودية سيرج بيبرديغو. ولا يزال المستشار اندري ازولاي مكلفاً بإدارة ملفات اقتصادية وسياسية بالغة الأهمية، تماماً كما بقي في امكان شخصيات يهودية ان تترشح للانتخابات الاشتراعية والمحلية. هذه الصورة التي تخدشها في بعض الاحيان مشاعر غير ودية وغير أليفة، كما في بعض الهجمات الارهابية التي استهدفت رموزاً يهودية، لا تلغي أي ركن في معادلة التعايش الازلي، لكن الراجح ان رهان المغرب على دور محتمل لليهود المغاربة المقيمين في اسرائيل لم يفلح في نقل الصورة من المغرب الى اسرائيل. ومن المفارقات ان اصوات اولئك اليهود التي كان يفترض ان تعزز حظوظ السلام وفرصه تذهب في اتجاه دعم التيارات والأجنحة الأكثر تطرفاً، ما يعني ان هناك خللاً في التركيبة والأهداف تغذيه نزعات غير متسامحة. مجرد الإقرار ان شخصيات يهودية مغربية لعبت ادواراً في ترتيب لقاءات سرية وعلنية بين الملك الراحل الثاني ومسؤولين اسرائيليين امثال موشي دايان وشيمون بيريز وناحوم غولدمان، يفيد بوجود رغبة في الإفادة من تعايش محلي يصير في الإمكان تعميمه لو توفرت ارادة حقيقية في بناء مقومات سلام عادل في الشرق الاوسط. غير ذلك لم يحدث في مقابل إهدار اكثر الفرص المواتية لصنع سلام على مقاس تعايش ممكن وليس مستحيلاً. فالصدام ليس مصدره الانتماء الديني انما تعصب السياسات التي تنتهجها القيادات الاسرائيلية غير مبالية بالمخاطر التي تزيد تراكم الاحقاد والاستسلام للتطرف. لم تغير اسرائيل سياستها. ولم تحاول ان تطور نظرتها في اتجاه المستقبل. وهي بذلك لا تعاكس فقط التيار المتنامي لإنهاء النزاع وانما تتنكر لتاريخ طويل من التعايش الذي جمع اليهود والمسلمين تحت مظلة التساكن الذي يضمن حقوق الطوائف كافة من دون تمييز. ولعل الرسالة التي يقدمها اليهود المغاربة الذين تستضيفهم مدينة فاس في تجمع عالمي أن من دون استحضار تجربة التعايش في المغرب، لا يمكن بناء ثقة تقود الى استنساخه بمنطق الحاضر والمستقبل. والتحدي الذي يواجهه هؤلاء مصدره الاصوات المتطرفة التي ترتفع في اسرائيل منادية بإضفاء بُعد ديني على هوية وجودها المفروض بالقوة والبطش والاغتصاب. اكثر من طرف، وتحديداً واشنطن، تمنت على الرباط معاودة القيام بدور في تقرييب وجهات النظر على الضفاف المتباعدة لمفهوم السلام. غير ان أي مساع بهذا الصدد لا تتوقف على ارادة المغرب او أي دولة عربية أخرى، بقدر ما تظل رهن الضغط على اسرائيل لاستبدال لاءاتها الجديدة بالإذعان لمنطق العصر، وقد لا يعني تجمع اليهود المغاربة في فاس اكثر من رفع الصوت عالياً لتكريس تعايش يستمر خارج اسرائيل، عسى ان يقود في الآتي من الزمن الى نقل الصورة الى داخل الكيان الاسرائيلي الذي لم يتعود بعد على تذوق طعم السلام العادل.