كانت الاستشارات النيابية غير الملزمة التي أجراها الرئيس سعد الحريري، بعد إعادة تكليفه تشكيل الحكومة، مختلفة تماماً عن استشارات التكليف الأول، وعن الاستشارات التي كان يجريها رؤساء الحكومة السابقون لدى تشكيل حكوماتهم. إذ تناولت المرحلة الأولى، التي استمرت خمسة أيام، طرح أسئلة محددة، على الكتل والنواب، عن شتى الجوانب المتعلقة بالقضايا السياسية والإنمائية والاقتصادية و «اتفاق الطائف»، بهدف التمهيد لتوافق سياسي عام على مهمة الحكومة، قبل الغوص في تفاصيل تركيبتها وتعقيداتها. ومن القضايا التي طرحت أسباب الأزمة السياسية، وما إذا كانت أزمة نظام أم أزمة حكم نتيجة عدم تطبيق الدستور؟ والطرق الآيلة إلى تطوير النظام السياسي إلى نظام ديموقراطي حقيقي، يحقق تطلعات اللبنانيين وطموحاتهم في تعزيز العيش المشترك وترسيخ الوحدة الوطنية وتثبيت الاستقرار الأمني. وما إذا كان إلغاء الطائفية السياسية والتوزيع الطائفي للنواب ووظائف الفئة الأولى في الإدارات الرسمية والعامة، يؤدي إلى تحرير النظام من الطائفية وتحكّم أمراء الطوائف في الوطن؟ وهل إقامة مجلس للشيوخ تتمثل فيه كل الطوائف، يتولى المحافظة على الكيان والتعددية الثقافية ويؤمن مشاركة كل الطوائف في القرار الوطني، كفيل بإعادة الثقة إلى الطوائف والاستقرار إلى الوطن؟ وتطرقت الاستشارات إلى الصراع العربي – الإسرائيلي، والسلاح الفلسطيني والاستراتيجية الدفاعية المطلوبة لحماية لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية، وتداعيات الصراعات الإقليمية والدولية على الساحة الداخلية، وطرق حمايتها من التدخلات الأجنبية. كما تناولت الإصلاح السياسي والإداري، واللامركزية الإدارية، والقانون الأفضل للانتخابات، وكيفية معالجة المديونية العامة التي بلغت 155 في المئة من الناتج المحلي، والوسائل الكفيلة بالحد من العجز المالي من خلال زيادة واردات الدولة بما لا يؤثر على الطبقة الفقيرة وخفض الإنفاق خصوصاً في قطاع الكهرباء، والقطاعات التي يجب خصخصتها، ومقررات باريس 3، والقضايا الحياتية التي يعانيها المواطنون في مجالي التقديمات الاجتماعية والخدمات العامة. وتحولت الاستشارات المسهبة، إلى طاولة حوار، وملتقى للنقاش وبناء الثقة، ومنتدى للمكاشفة وإظهار المشاكل ومكامن الحلول لها، بحيث شكلت القواسم الجامعة بين القوى السياسية والحزبية، الخطوط الرئيسية للبيان الوزاري للحكومة العتيدة. ويؤدي التوافق على حلول عملية للملفات الأساسية، إلى الانسجام داخل الحكومة ونجاحها في إدارة الدولة، خصوصاً، أنها حكومة ائتلافية تمثل مجموعات طائفية ومذهبية، لكل منها أهدافها الخاصة وارتباطاتها الخارجية. والتقى الرئيس المكلف في المرحلة الثانية من الاستشارات، كتلاً نيابية أساسية في الأكثرية والمعارضة التي يشكل تمثيلها في الحكومة حجر الأساس للبناء الحكومي، حيث تركزت المباحثات على تذليل العراقيل وتحديد صيغة الحكومة وأسماء الوزراء وتوزيع الحقائب. وهو يتابع مشاوراته مع القيادات الرئيسة في الأكثرية والمعارضة من أجل تذليل عقدة توزيع الحقائب، خصوصاً بعد أن تم التوافق على عدم استثناء الفاشلين في الانتخابات النيابية من التوزير، ما يعني إعادة توزير صهر رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون المهندس جبران باسيل، ويشترط عون لتسهيل تشكيل الحكومة الحصول على وزارة الداخلية أو وزارة المال لقاء التخلي عن وزارة الاتصالات، ما يعيد موضوع التشكيل إلى المربع الأول الذي بدأت به منذ أربعة أشهر. ويدعم «حزب الله» عون في مطالبه، لأسباب تتعلق بالتغطية التي يوفرها له في الساحة المسيحية، مع أن مصلحته أن تكون للبنان حكومة يشارك فيها، لأنه مستهدف سياسياً وأمنياً من أكثر من جهة محلية وإقليمية ودولية، وذلك لمواجهة الضغوط الدولية التي تستهدف دوره وسلاحه. واللافت للانتباه تصريحات رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان لصحيفة «الحياة» في 27/9/2009 الذي نفى فيها أي تدخل أو عرقلة سورية وإيرانية في مسألة تشكيل الحكومة. ويخالف النائب وليد جنبلاط رئيس الجمهورية في هذا الشأن بقوله: «إن الحكومة تصنع في لبنان، وتصنع من المحور السعودي – السوري الذي أرسى الطائف عام 1989 والذي كان الأساس في استقرار لبنان»، كما أن الأخبار والتعليقات المحلية والسورية والدولية تؤكد أن الأزمة اللبنانية المتفاقمة والمقلقة، ناجمة عن تدخلات خارجية. أما تصريحات الرئيس سليمان في شأن عدم ممانعته توزير الراسبين في الانتخابات النيابية، فإنها ربما تعود إلى إخراج الرئيس المكلف من دائرة الإحراج وإخراج الحكومة من مأزق هذه العقدة. وواكب استشارات تشكيل الحكومة اللبنانية، بعض التطورات الإقليمية الإيجابية التي تساهم في تشكيلها، نتيجة ارتباط الأزمة اللبنانية بقضايا المنطقة، ومن هذه التطورات: 1- التفاهم السعودي – السوري، الذي جرى إحياؤه أثناء زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى جدة وتوثق بزيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى دمشق. وأدت المباحثات بينهما إلى ترسيخ مناخ عربي وإقليمي مريح ساعد على دفع الجهود اللبنانية نحو «لبننة» الاستحقاق الحكومي وتحصين الوضع الداخلي. وشكل الاتفاق بين الدولتين مظلة دافعة ومساعدة وتغطية كاملة لحكومة الوحدة الوطنية. وخففت نتائج القمة بين الزعيمين العربيين من تفاعلات الخلافات السياسية اللبنانية، لكن النتائج الايجابية المعممة للقمة، لا تتطابق مع النيات الحقيقية التي تتعاطى بها دمشق مع ملف تشكيل الحكومة اللبنانية، وإن مقولة أن على اللبنانيين أن يتفقوا في ما بينهم، يعني ترك مصير تشكيل الحكومة واستقرار البلد لمزاج الكتل النيابية، خصوصاً أن لبنان يخضع لمعادلة الحكم عبر التوافق وليس عبر الاحتكام إلى نتائج الانتخابات. 2- نجاح الجولة الأولى من المفاوضات بين الدول الست الكبرى وإيران في جنيف، حول الملف النووي الإيراني، ما أدى إلى كسر الجليد وبعض النتائج العملية منها: السماح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش المنشأة النووية الإيرانيةالجديدة في قم يوم 25 من الشهر الجاري، والمباحثات البناءة في فيينا التي بدأت منذ يومين بين إيرانوالولاياتالمتحدة الأميركية وروسيا وفرنسا من أجل تخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية خارج إيران. والحوار الذي جرى على هامش اجتماع جنيف، بين الولاياتالمتحدة الأميركية وإيران، بعد ثلاثين سنة من قطع العلاقات الديبلوماسية بينهما، حيث تخطى الملف النووي الإيراني إلى إعادة تقويم العلاقات بين البلدين، والتعاون بينهما لحل القضايا الإقليمية الشائكة، وتسعى إيران إلى مقايضة تعاونها بتكريس دور فاعل لها في المنطقة. ونأمل في أن لا يؤدي مقتل ستة من قادة الحرس الثوري الإيراني الكبار، إلى تأزيم الأوضاع في المنطقة، خصوصاً بعد اتهام إيرانالولاياتالمتحدة الأميركية بالضلوع في مقتلهم. ونتساءل متى تبصر حكومة التوافق اللبناني الداخلي والإقليمي النور؟ من أجل طي صفحة من القلق والتعنت في لبنان، امتدت منذ ما بعد الانتخابات النيابية. * كاتب لبناني.