إنه الشاب جان، ابن الثالثة والعشرين، الطالب في السنة الثانية - حقوق. وهو لا يتوقف عن «الصعود» الصاروخي. فهو أصبح العام الفائت عضواً في مجلس محافظة المنطقة الثرية التي يقطنها، وهي إحدى ضواحي باريس (وكان الأب، رئيس الجمهورية الفرنسية الحالي، قد بدأ حياته السياسية فيها بصورة مشابهة إلى حد بعيد). وها هو يتصدى اليوم لرئاسة «الهيئة العامة لتأهيل منطقة لاديفانس»، تمهيداً لرئاسة هيئة أخرى ستولد في الربيع المقبل وتُكلّف بالتعامل التخطيطي والعقاري مع دائرة موسعة تشمل مناطق عدة معاً، بل ويقال إنها تشمل «باريس الكبرى» حتى البحر، وهو مشروع الرئيس الفرنسي الطموح، وموضع الخلاف الشديد في آن. مساحة الدائرة الأولى وحدها، موضوع هذا النزاع الابتدائي، 3.3 مليون متر مربع، وهي تستقبل 2500 شركة، منها مكاتب الشركات النفطية والمالية والعقارية الفرنسية الكبرى. والهيئة مصنفة «مصلحة عامة»، أي أنها مؤسسة تابعة للدولة التي تمنح أذونات البناء والاستثمار وتضع لها موازنتها. وتعتبر المنطقة المذكورة أول «حي أعمال» أوروبي. الطموح الثاني هذا للشاب، أثار زوبعة إعلامية وسياسية لم تهدأ بعد، وصلت إلى حد إشاعة الاضطراب في صفوف «حزب الرئيس» نفسه، كما بات يسمى. هذا عدا عن تحولها إلى موضوع للتندر في العالم حول مسألة الوساطات وإيثار الأبناء، (أو ما يقال له «دعم أبناء الإخوة»، ربما لأن العقل السياسي الذي اشتق كلمة «nepotism” لم يتوقع أكثر من ذلك! أو، وبواقعية أكثر، البابا الذي مارس الفعلة في الفاتيكان في القرن السادس عشر، لم يكن ممكناً أن يكون لديه أبناء، فآثر ابن أخيه! وعلى كل حال، فليس من المصادفة ولادة المفردة/ المفهوم، بما تحمله من معنى سلبي، مع طلائع الأنوار). إلا أن هذا الطموح الثاني يخفي ثالثاً، على الأقل، ظهرت ملامحه بجلاء كعنصر من عناصر المواجهة الحالية، ويتعلق بانتخابات مجالس المحافظات المقبلة، عام 2011. وثمة خلف كل ذلك طموح مستديم، يتعلق ببساطة بالنفوذ في عالم المكاسب الاقتصادية... كي لا يقال أكثر. حملة الدفاع عن الابن تدعو إلى تجاهل صلة القربى التي تربطه بالرئيس، و«الحكم عليه وفق مهاراته» (!)، ما استدعى توجه بعض الطلاب من رفاقه في الصف إلى بوابة قصر الإليزيه لطلب مقابلة الرئيس، وتقديم عريضة تبنٍ كما قالوا للصحافة، عسى يظهِّر ذلك مهاراتهم هم أيضاً. لعل القصة لا تبدو مثيرة في العالم العربي حيث تتكاثر الجمهوريات الوراثية، بالفعل أو بالإمكان، بل حيث يأسف بعض الرؤساء على حالهم إذا ما كانوا محرومين من الذرية. فما بالك بتنصيب الأبناء أو الأقرباء على رأس مؤسسات دولتية مصنفة «مصلحة عامة»، سواء منها تلك المختصة بالحياة السياسية، أو تلك الوظيفية العائدة إلى مصالح حساسة كالأمن، ضماناً لولائها. أما الإيثار في المناصب ذات الطابع الاقتصادي، من قبيل تسهيل حياة الأبناء والأقرباء، فأضعف الإيمان. ولكن الألفة هذه مع قصصنا نحن، ينبغي ألا تسهل إغراء عقد مقارنات أو استخلاص الشبه. فثمة فارق كبير بين حالتنا والقصة المذكورة، أوله موجة الاستنكار التي تثيرها، والنقد العلني العارم الذي تواجه به نية الشاب وتواطؤ أبيه وجماعة أبيه، مما لا يلغي النجاح المتوقع للعملية. ولعل الشبه الوحيد هنا هو التشارك في السخرية، بما هي سلاح سياسي ماضٍ، عندنا في السر، على شكل نكات يجرى تداولها بهذا القدر أو ذاك من التكتم، ولكنها على رغم ذلك تصبح شائعة، وفي فرنسا بالعلن وبطريقة موثقة، عبر مئات رسوم الكاريكاتور مثلاً التي تتصدر صفحات كبريات الصحف، أو البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي تعتمد الفكاهة المرّة. كما أن فارقاً مهماً يكمن في المحاسبة القضائية الممكنة، وإن اللاحقة. فأحد أبناء الرئيس ميتران تعرض لمحاكمات وأنزلت به أحكام قاسية بتهمة الاستفادة من نفوذ أبيه في عقد صفقات أعمال مشبوهة في أفريقيا. كما مر أمام القضاء، الذي حاكمهم وحرمهم من بعض أهليتهم العامة، مسؤولو أحزاب ورؤساء بلديات، اعتبر أنهم أساءوا الأمانة، وإن لغير مصلحتهم الشخصية أحياناً. بل كاد الرئيس شيراك نفسه يتعرض لمحاكمة قاسية هو الآخر. إلا أن قصة جان ساركوزي تؤشر، على رغم كل ما يمكن أن يقال فيها من أوجه، وعلى رغم الميل للاستخفاف بها، (واعتبارها جزءاً من فكاهات الرئيس الفرنسي، المشتهر بكثرة علامات المزاج)، إلى تغيّر في ترتيب سلّم القيم السائد عموماً في المجتمع، الذي وإن طغت على رد فعله حالة من الاستنكار، إلا أن مجرد وقوع مثل هذه الحادثة لم يكن «معقولاً» في ما مضى. أما أن تصبح اليوم مجالاً لأخذ ورد، وتبرير من البعض، ونقاش جاد وتحليلات، إلى آخر ذلك، فيعني أن «ريادة» السيد ساركوزي (الأب)، الذي وعد بالقطع مع الماضي، قد بدأت فعلاً تأتي ثمارها، وأن تسييد عقلية البزنس وعلاقات المقاولات في السياسة قطع شوطاً كبيراً. فهل هذا التطور ليس سوى كشف للواقع كما هو على كل حال، يحرره من رياء بغيض، فتبدو هذه الجرأة ضرورية لتلحق فرنسا بالليبرالية «المتخلصة من العقد»، على حد قول الرئيس الفرنسي نفسه أثناء حملته الانتخابية، وكان ذلك قبل وقوع الأزمة الكبرى التي هدّأت إلى حد كبير من هذه المزاعم؟ أم هو فعلاً استثناء، سرعان ما سينقلب على مرتكبيه ويعود الانضباط (وإن لم يخل الواقع فعلاً في ما مضى من علاقات الإيثار والوساطات) إلى مكانه؟ ذلك أن الجواب عن هذا التساؤل يفتح المجال لتفحص تغيّر ثان في غاية الأهمية، يتعلق بمفهوم الدولة، وتعريف مؤسساتها وعلاقاتها، كما بتعريف المصلحة العامة، مما كان يبدو محسوماً – مجدداً قبل انفجار الأزمة الكبرى – لمصلحة قبر الدولة نفسها (كمؤسسات موضوعية وقوية، أي بيروقراطية فعالة) بدعاوى التخلص من تلك الرعائية، المتلازمة مع تعيين «المصلحة العامة» بصفتها الأولوية وهي التي تستند إلى مرجعية اجتماعية. فقد لحق بكل ذلك اضطراب، وبات الواقع نفسه هجيناً، ومريضاً بشدة... ولعل ذلك يعيد إلى النقاش والبحث حول ما هو المطلوب، وكيف يبنى، كل قيمته.