سببت مشكلة عجز العلماء المعاصرين عن تحصيل الكفاءة العلمية والمعرفة الواقعية بالمشكلات القائمة على الأرض لا الموروثة من غياهب التاريخ، عجزاً في ابتكار العلماء الأفكار وبناء المنظومات المتماسكة فكرياً وواقعياً، فابتعدوا عن الأسئلة الملحّة ووجهوا ركابهم نحو الماضي ينهلون منه وتركوا مستقبلنا مخطوفاً لدى خصومنا يرسمونه كما تشاء مصالحهم لا كما ينبغي أن يكون لنا. وربما لهذا نجد أغلب أطروحات التجديد لا معنى لها ولا تؤتي ثمارها، وإنما هي تكرار للذات وللسلف وهي مجموعة من الخطابات والكلمات الرنّانة من دون أي معانٍ جديدة أو أفكار مفيدة، فأي تجديد لا يسمى تجديداً إلا إذا اخترق الأصول. وعلينا أن نعي حقيقة تاريخية مهمة وهي أن التاريخ الإنساني بحسب التنزيل الحكيم يمكن أن يقسم إلى مرحلتين: المرحلة الأولى مرحلة الرسالات التي انتهت برسالة محمد (صلى الله عليه وسلم). والمرحلة الثانية مرحلة ما بعد الرسالات والتي نعيشها نحن، أي أن الإنسانية الآن لا تحتاج إلى أي رسالة أو نبوة، بل هي قادرة على اكتشاف الوجود بنفسها من دون نبوات، وقادرة على التشريع بنفسها من دون رسالات، والإنسانية اليوم أفضل بكثير من عصر الرسالات لأن البشرية كانت في حاجة إليها للرقي من المملكة الحيوانية إلى الإنسانية، أما نحن فلا. وعلينا أن نعي أن المستوى الإنساني والأخلاقي في تعامل الناس بعضهم مع بعض أفضل بكثير من قبل وحتى في عهد الرسالات. فالبكاء على عصر الرسالات لا جدوى منه، لأننا الآن في مستوى أرقى معرفياً وتشريعياً وأخلاقياً وشعائرياً. ويكفي أن ضمان حقوق الإنسان أصبح كابوساً على كل رأس متسلط، والمؤسسات المدنية المحلية والعالمية التي تقوم على أساس تطوعي تتنامى يوماً بعد يوم، وتم إلغاء الرق إلغاء كاملاً، حيث دشنت الرسالة المحمدية بداية تحرير الرق والمرأة ولم ينته إلى الآن. تلك الأفكار يطرحها بهدوء وئيد الدكتور محمد شحرور عبر أجندته الفكرية - ممتلكاً لغة الشرع ولغة العصر، وكان قادراً بذلك على ترسيخ أقدامه في مجتمعه على رغم شدّة المعارضة والمقاومة له - بهدف إعادة الصورة المشرقة للدين الإسلامي وإثبات عالميته بشموليته لكل الرسالات وبأنه لكل الناس على اختلاف عقائدهم ومللهم من خلال قراءة معاصرة للتنزيل الحكيم بدأت منذ عام 1990 ليقدم ومنذ فترة طويلة مفاتيح فهم التنزيل الحكيم ألا وهي مصطلحاته فكانت نقطة التحول الأولى في القراءة المعاصرة للتنزيل ليتبعها بنظرية خلق الكون والإنسان وسر الأنسنة ونظرية الحدود على قوانين الإرث والتعددية الزوجية ولباس المرأة والقوامة، ليصدر كتابه «الدولة والمجتمع» وأعقبه كتاب «تجفيف منابع الإرهاب». ومن خلال القراءة المتأنية في كتابات محمد شحرور يمكن أن نرصد بعض الملاحظات التي يمكن تنضيدها في نقاط مختصرة: أولاً، في ما يتعلق بكتابه «تجفيف منابع الإرهاب» يمكن أن أشير في ما يتعلق بالمنهج المتبع في التعامل مع التنزيل الحكيم إلى أن هناك اتفاقاً تاماً حول الحاجة للتجديد في أصول الفقه، وكذا حول أسلوب الى التجديد المتمثل في اختراق الثوابت من أجل تحقيق هذا الهدف، وليس فقط الوقوف على قشور الموضوع بإنكار حديث أو تضعيفه، فالمشكلة الأساسية التي تواجه - في رأيي - ميراث الأحاديث الموجودة لدينا هو اختلاط ما هو سياسي بما هو ديني طوال فترات طويلة من الحكم اللاديموقراطي في الدولة والمجتمعات الإسلامية. إضافة بالطبع إلى ما يحيط بعض رواة الأحاديث من شكوك ومحاذير اختفت مع مضي الزمن تحت سطوة المقدس. وفي ظني، فإنه من غير المعقول ألا ينال التدهور الذي حاق بحال المجتمعات الإسلامية ذاكرة الأحاديث والتفسير في هذه المجتمعات، فليس من المعقول - مثلاً - أن يكون حديث الذبابة على سبيل المثال، أصدق من الآراء العلمية الموثوقة التي تحولت حقائق في ما بعد، وثبت أن الذباب لا يجلب إلا الضرر، وأنه لا نفع فيه على أكثر الأحوال. الأمر نفسه ينطبق على تفسير القرآن الكريم ذاته. وإعادة القراءة والتفسير تتطابق مع ما ورد عن النبي الأكرم ذاته من أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدد لها دينها. وهذا التجديد لا يجب أن نحصره في إطار إعادة قراءة السنة والأحاديث فقط، بل لا بد من أن يمتد إلى القرآن ذاته. وهذا هو الأهم، لأن عصب الدين الإسلامي هو القرآن الذي لا يجب أن تهدر قيمته لتقتصر على التجويد أو الترتيل فقط، بل لا بد من أن تمتد الجهود إلى التفسير، لأن هذا هو ما يحقق هدف تجديد دين الأمة فضلاً عن هدف آخر أسمى هو التواصل مع الآخرين. إننا إذاً أمام مهمة ذات شقين: الأول التفكيك. فيتطلب ذلك مهارة في أداء هذه العملية حرصاً على تشكيل البناء ونفياً لاتهام مسبق وجاهز التحضير بالاستهداف لفرض الهدم. أما الشق الثاني: فهو إعادة التركيب. وهو ما يتطلب استخدام منهج متماسك للبناء، يرتكز على الأصول ويضع معايير لقبول لَبِنات الأساس مع القدرة الجريئة على استبعاد ما يخالف هذا البناء حتى ولو سبق استخدام هذه اللبنات في وقت سابق ولفترة طويلة. المطلوب إذاً مهارة في التفكيك وتناسق في إعادة التركيب. أما في ما يتعلق بأفكار الدكتور محمد شحرور في مُؤلفه «الكتاب والقرآن»: يمكن أن نرصد إسرافاً في استخدام المعاني وتعريف المصطلحات بصورة قد لا تتناسب مع المتلقي العادي. واعتقد أن الموضوع من الأهمية بمكان أن يتم تبسيطه بحيث يصل إلى الإنسان البسيط في صورة سلسلة سهلة الهضم. فإذا ما تم تحقيق هذا الغرض، سهلت ترجمة ذلك إلى لغات أخرى يتحقق معها التواصل المطلوب. هذا في ما يتعلق بالشكل العام. أما من حيث المضمون فهناك اتفاق على أن النبي الأكرم لم يؤول القرآن وأنه كان أمانة تلقاها وأداها للناس من دون تأويل، وأنه أعطاهم فقط مفاتيح عامة للفهم، وهذا يحُسب للدكتور شحرور. والقول بذلك لا يتعارض مع مقام النبوة في شيء، فموسى عليه السلام حاز مكانة لم يحزها قبله أحد من الرسل، فكان الكليم، وظل كذلك. ومع هذا، فلم يكن أعلم أهل الأرض، فقصته مع الخضر معروفة. ومعجزة القرآن تخص رب العزة فقط، وإذا كان الله سبحانه وتعالى اختار نبيه لتقبل الرسالة، فظني أنه لم يختره لتفسيرها، فالتفسير إذاً يظل مسؤولية المسلمين، بل وغيرهم أيضاً على مدى الأزمان حتى تقوم الساعة. أما في ما يتصل بعدم وجود أسباب لنزول القرآن، فهذا أيضاً صحيح، لأن تزامن بعض سور وآيات القرآن مع أحداث بعينها جاء من قبيل اختيار مناسبات النزول. بقي أن نشير إلى أهم ما تضمنته أجندة الدكتور شحرور من محاور رئيسية في كتاباته يدعو من خلالها إلى إعادة التفكيك والتركيب. أولها: ما يتعلق بفقه المرأة والمواريث، فمن الواضح تماماً أن محمد شحرور وضع منهجاً متميزاً في معالجة الأمور التي تهم الأمة الإسلامية. وهذا المنهج يربط بين تحليل المفاهيم والمفردات، وبين استنباط فكر جديد يتخذ من هذه المفاهيم بداية منطقية للخروج بنتائج جديدة صحيحة حتى لو خالفت ما هو معروف بالضرورة. وفقه المرأة والمواريث لا يرتبط فقط بوضع فهم جديد لطريقة توزيع الميراث، بل بالتأكيد على أولويات واضحة تماماً في القرآن الكريم، غير أن الفقهاء تجاهلوا أو أساءوا فهم هذا الوضوح، مثل أولوية الوصية على الميراث. فالوصية لها دور اجتماعي واقتصادي أكبر من مجرد حصرها في نقل أموال من مورث إلى وارث. وغني عن البيان أن فقه المواريث يرتبط كذلك بضرورة فهم جديد لدور المرأة في المجتمع. وكذلك الابتعاد تماماً عن حصر النظر إلى المرأة في الحجاب أو ما شابه من قضايا تعيد الأمة إلى الوراء أو ما قبل عصور الجاهلية. فهند بنت عتبة التي لا يعرف المسلمون عنها غير أكلها لكبد سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، خيّرها أبوها بين الزواج من أبي سفيان أو غيره فاختارت أبا سفيان. وهذا يدل على أن دور المرأة قبل الإسلام كان مكملاً لدور الرجل ولم يكن هناك غنى عنه، وجاء الإسلام فعزز هذا الفهم. وأتاح دوراً أكبر حالت الظروف التاريخية دون استكماله. وعادت بالمرأة قروناً عدة إلى الوراء، وهذا هو التحدي الحقيقي أمام الفقه المعاصر الذي ينادي به المفكر محمد شحرور من خلال كتاباته. إضافة إلى دعوته لكسر الجمود وتحطيم الصنم المعبود الذي يدعي فهماً أبدياً للإسلام يحرم المعاصرين والقادمين من محاولة التصدي له. أما في ما يتعلق بما يُعرف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي المسألة التي أعتبر أنها بقدر ما هي أساسية في المجتمع الإسلامي، إلا أنها شُوهت عبر التاريخ الإسلامي حتى خرجت عن أهدافها وإطارها الصحيح. فتم احتكارها من قبل سلطة الدولة أو سلطة الفقهاء أو حتى سلطة الشرطة للتحكم في أقدار وأرزاق العباد. ورأيي أن التحالف التاريخي وغير المقدس بين السلطة وعلمائها هو ما يقف في الوقت الحالي وراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما ترتبط هذه الفكرة أيضاً بصورة الإله الغاضب دائماً في الإسلام والتي اتفق مع الكاتب تماماً في أنها صورة مشوهة موروثة من حضارات أقدم؛ كان الملوك والزعماء فيها يأمرون رعاياهم بما طاب لهم اعتماداً على تجنب إغضاب الإله. الغريب أننا وجدنا بعضاً من فقهاء الإسلام هللوا وصفقوا للنميري في السودان حين ظن نفسه ظل الله في أرضه ورمزاً لإقامة شرع الله وبدأ قطع الرؤوس والأيدي والأطراف باسم الإسلام والشرع فماذا كانت النتيجة؟! قامت حروب ضروس استمرت نحو ربع قرن أتت على الأخضر واليابس في السودان. وكره الجنوبيون الإسلام والمسلمين وأصبحنا على أعتاب سودان شمالي وجنوبي في القريب. كل ذلك كان يجري وسط ترحيب وتصفيق من علماء ادعوا أن الله راضٍ عما يفعله النميري استمراراً لفكرة الإله الغاضب القاسي الذي يعاقب دائماً بالبتر والقطع. إننا في حاجة حقيقية للتصدي لذلك كله وإعادة بناء الإسلام الحقيقي الذي نواجه به العالم. فلا أدري لماذا يركن بعض الفقهاء المبعوثين في الخارج للتعريف بالجانب السمح في الإسلام ثم يعودون للتخويف مرة أخرى عند العودة لأرض الوطن. ألا يستحق مسلمو الداخل هم أيضاً التعرف الى الإسلام. أما في ما يتعلق بمفهوم الإسلام والإيمان في كتابات محمد شحرور، فنجد أن الإسلام ديانة عالمية ذات مبادئ مكملة للمبادئ التي وردت في الديانات السماوية الأخرى. وبقدر عالمية الإسلام بقدر سماحته في تقبل واستيعاب الاختلافات معه ولا أظن أن شرط دخول الجنة أن يكون المرء مسلماً. فلا أظن أن المسيحي الذي يتبرع ببلايين الدولارات من ثروته لمشاريع البر ومكافحة الأمراض في أفريقيا أو لتشجيع المواهب من الشباب في أنحاء العالم بغض النظر عن الدين والانتماء من أجل نهضة البشر سيكون مصيره النار بينما سيدخلها من شهد بلسانه أن لا إله إلا الله ولم يفعل شيئاً لخدمة مجتمعه وإنسانيته. فهذا يتعارض مع مفهوم التكليف البشري والأمانة التي لا بد من حملها. وهناك حاجة ملحة لإعادة تعريف من هو المسلم الحقيقي وصياغة العلاقة مع الآخر انطلاقاً من هذا التعريف. فقد مضى عصر تصنيفات دار الحرب ودار السلام وأصبح علينا العودة مرة أخرى للأصول القرآنية الواردة في كتاب الله في إطار فهم شامل ومتكامل لعناصر الرؤية الربانية الواردة في الكتب السماوية. وفي ما يتعلق بكل ما ورد في السنة من أحاديث عن قتل المرتد وخلافه، كل ذلك ينبغي أن نعيد النظر والتأمل فيه مرة أخرى باعتباره لا يتناسب مع حال المسلمين اليوم. لقد ورثنا حلة ضيقة للغاية على جسم كبر ونما واتسع حتى أضحى الأمر مثيراً للسخرية والشفقة معاً. * كاتب مصري