خسر منتجو الحليب الأوروبيون معركتهم في مراجعة الحصص وعادوا إلى قراهم ومزارعهم بعد أن تظاهروا احتجاجاً في مختلف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. لكنّهم غنموا للآن قرار المجلس الوزاري الاثنين الماضي بتشكيل مجموعة خبراء لدرس إمكان تنظيم سوق الحليب، من دون أن يتراجع الاتحاد عن خطة إلغاء نظام الحصص، في شكل تدريجي حتى عام 2015. وتمثل أزمة الحليب، فصلاً من فصول التوتر الاجتماعي في السوق الأوروبية. ولم تنفع مشاهد زحف مئات الجرارات نحو وسط العاصمة الأوروبية بروكسيل وحصار مقر الاتحاد الأوروبي مطلع الأسبوع. وقد تتجه طوابير المزارعين ومربي المواشي بعد أقل من أسبوعين إلى لوكسمبورغ حيث يجتمع وزراء الزراعة، من أجل صوغ تفاصيل الوعد المبهم في شأن تنظيم السوق، من دون التراجع عن خفض معونات السياسة الزراعية. ولم يتردد المزارعون في بلجيكا، في إتلاف جزء من إنتاجهم في الطرقات، ورووا الحقول بثلاثمئة مليون ليتر احتجاجاً على انخفاض مواردهم. وذكرت جمعيات المزارعين أن أسعار الحليب تدهورت بعدما كانت بلغت ذروتها منتصف 2008، وأنها تدنت 30 في المئة خلال اثني عشر شهراً. وأعلنت رابطة المزارعين في الاتحاد الأوروبي أنهم سيفقدون 14 بليون يورو خلال هذه السنة. وتبلغ تكلفة إنتاج ليتر من الحليب 40 سنتاً بينما لا يتجاوز سعره لدى الاستهلاك 20 سنتاً. ويحذر المهنيون من أن أزمة قطاع منتجي الحليب تطاول قطاعات الحبوب والنباتات الزيتية، لأن تفاقمها يدفع مربي الماشية إلى الإفلاس. وتشخص أزمة قطاع الحليب معاناة السياسة الزراعية المشتركة التي شجعت الإنتاج على مدى عقود من خلال وفرة دعم الخزانة المشتركة على حساب الصادرات الزراعية. وتواجه اليوم عواقب التحرير من ناحية وارتفاع العرض من ناحية أخرى. وهو اتجاه حتمي لا يمكن التراجع عنه. وجدد وزراء الزراعة الاثنين الماضي تمسكهم بتوجهات إلغاء نظام الحصص وتقليص الدعم الأوروبي العام في شكل تدريجي وفق التزامات منظمة التجارة العالمية. ومن مسببات الأزمة داخلية وفرة الإنتاج في أسواق أوروبا الغربية مع اشتداد منافسة المنتجين من أوروبا الشرقية. لذلك تبدو الأزمة المطروحة، بمعركة الحرس القديم بين دعاة التمسك بامتيازات حماية السياسة الزراعية وأنصار تحرير الأسواق الأوروبية والعالمية. وتعد أزمة المزارعين فصلاً من فصول الأزمة الاجتماعية التي تهدد النموذج الاقتصادي الأوروبي الذي تميز، على طول مسار الاندماج الأوروبي، بتأمين الرفاهية الاجتماعية والتحصن ضد المنافسة الخارجية. ولا تختلف أزمة المزارعين عن معاناة قطاعات الصناعة والخدمات. وبعد ضخ مئات البلايين لإنقاذ النظام المصرفي، تجد الحكومات الأوروبية نفسها أمام المعاناة الاجتماعية. وتواجه حكومات كل من فرنساوبلجيكا وألمانيا وإسبانيا صعوبات كبيرة لتأمين استمرار نشاط صناعات السيارات وعتاد التجهيز، توفر فرص عمل لملايين في دول الاتحاد. وتسعى هذه الحكومات، من خلال مساعداتها المالية لصناعة السيارات، لإقناعها بعدم نقل وحدات إنتاجها إلى أوروبا الشرقية وشمال أفريقيا وآسيا. و لا يسعها من ناحية أخرى وقف اتجاه تحرير قطاعات الخدمات مثل البريد والخدمات المالية وسوق العمل. وتشتد الأزمة يوماً بعد آخر بفعل ضيق هوامش تحرك الحكومات الأوروبية. وكل منها يعاني ضائقة في الموازنة وانخفاضاً في عوائد الضريبة بينما يُشاهد طوابير البطالة تمتد من دون معرفة أجل وقفها.