لا شك في أن الرئيس السابق جيمي كارتر يشكل مرجعية معنوية للتيار التقدمي في الولاياتالمتحدة، بل إن هذا الرئيس قد تمكن بالفعل من إعادة تفسير عجزه عن الفوز بولاية ثانية عام 1980 لإدراجه الفشل ذاك في إطار رفضه الصارم الانصياعَ لقواعد التداول السياسي المعتمدة في الولاياتالمتحدة بما تنطوي عليه من تجاوز لأوجه من العدالة الاجتماعية. فالرئيس كارتر حين يتكلم يعتمد على قناعة لدى جمهوره بأنه غير مقيّد باعتبارات سياسية آنية، بل ينطق بحقيقة صافية قد تكون على بال آخرين لكنها حتماً ليست على لسانهم. وبطبيعة الأحوال، فهو بذلك يخاطب شقاً من الجمهور الأميركي، وليس الجمهور بتمامه، إذ ثمة شق آخر يختلف لديه تقويم كارتر ليصل إلى أن يكون تجسيداً لأزمة الفكر التقدمي في أشكاله النخبوية والشعبوية والتمييزية والاستعدائية. وفي هذا السياق يأتي كلام كارتر الذي يربط بين المعارضة المدوية للرئيس الحالي باراك أوباما، لا سيما منها تلك التي في بعض الأوساط الشعبية، وبين استعضال العنصرية في الثقافة والمجتمع. والواقع ان كارتر في رأيه هذا يكشف عن شرخ ثقافي مستمر وربما سائر إلى التفاقم بين توجهات فكرية واجتماعية، قد تتضمن بعض رواسب عنصرية الأمس ولكنها تتعداها على أكثر من صعيد. والصفة التاريخية التي تلازم فوز باراك أوباما بالرئاسة في الولاياتالمتحدة مرتبطة طبعاً بلون بشرته وبهويته العرقية، على رغم الالتباسات الموضوعية فيها (فهو وفق الطرح المتداول أول رئيس أفريقي - أميركي، ولكنه لا يشارك الأفارقة الأميركيين، أحفاد الأرقاء الذين استقدموا قسراً إلى العالم الجديد في القرون الماضية، إلا في لون البشرة، فوالدته من أصول أوروبية بيضاء ووالده مهاجر من كينيا). وقد كانت بالفعل للرمزية في اختيار المرشح الأسمر البشرة أهمية قصوى على مستوى الصورة الذاتية الجماعية للولايات المتحدة، وأثار فوز أوباما نشوة لدى الكثيرين من مختلف الأصول العرقية مصدرها قناعة بتجاوز الإرث المؤلم للعنصرية والتمييز والتفرقة. وعلى رغم أن الدراسات الميدانية في هذا الصدد لا تبلغ حد التقرير العلمي، فإنه يمكن التوقع بأنه كان لهوية أوباما العرقية المفترضة تأثير سلبي في قدرته على استقطاب بعض الناخبين، لا سيما في الأوساط التي يستمر فيها التنافر بين المجموعات العرقية، من ولايات الجنوب، والتي ما زالت تحتفظ ببعض أنماط الفصل العرقي، إلى الكثير من المراكز المدينية المتآكلة اقتصادياً واجتماعياً. لكن في المقابل، لا شك في أن الهوية العرقية المفترضة لأوباما جاءت بتأثير إيجابي في غير ذلك من الأوساط، لاعتبارات ثقافية وجيلية ومناطقية مختلفة. والأرجح أن الحصيلة النهائية لتأثير الهوية العرقية كان، في واقع الحال، إيجابياً بالنسبة الى حظوظ أوباما. ولا بد هنا من التشديد على جانبين أساسيين في الصورة السائدة لهذا الرئيس الشاب، أولهما أنه بالفعل يتمتع بجاذبية شخصية وبطلاقة كلامية وبقدرة إقناعية مميزة بالمطلق، إضافة إلى كونها تشكل تميزاً ملحوظاً بالمقارنة مع سلفه جورج دبليو بوش والذي اشتهر بالتعثر الكلامي. والثانية أنه يظهر في وجه ينم عن قيادة واثقة في مقابل عجز لدى خصومه، في الانتخابات وبعدها، عن تقديم طرح بديل. لكن هذه السمات البارزة لا تنفي أمرين واقعين، الأول أن أوباما فاجأ الكثيرين بعد فوزه باعتناقه البرنامج التقدمي بعدما كان قد أشار خلال حملته الانتخابية إلى وسطية في منهجه المرتقب، والثاني أنه لم يتمكن من تحقيق التقدم الفعلي في معظم الملفات التي فتحها. وإذا كان مؤيدوه يعتبرون أول الأمرين حنكة سياسية ويعيدون الثاني إلى تكالب الخصوم على مشروعه التغييري، فإن خصومه يرون في الأول نفاقاً وفي الثاني تعبيراً عن رفض الجمهور الأميركي لطروحاته الجذرية. وعلى أية حال، فما لا شك فيه أن ما فشل أوباما في تحقيقه هو تبديل المناطحات الحزبية المعتادة إلى أجواء من التعاون بين الحزبين. فلا عجب بالتالي في أن تتفاقم الاعتراضات على سياساته، وأن يسعى خصومه، وهم الذين يفتقرون إلى الطرح البديل، إلى إظهار هذه الاعتراضات على أنها حركة شعبية. والواقع أنها في بعض الأوساط فعلاً كذلك. وما يصاحب هذا التحريك الشعبي بين الحين والآخر هو استعمال صور تجريحية تهكمية، لم ينجُ منها رئيس أميركي في الماضي ولا اعتراض على جواز استعمالها حفاظاً على مبدأ حرية التعبير وإن اعتبرت خارج الذوق السليم. فقد سبق للرئيس بوش مثلاً أن شهد وجهه على يافطة مصوراً بالقرود، وها هو الرئيس أوباما اليوم يتعرض لتجريح يستعمل عناصر مستقاة من التصوير العنصري للأفارقة الأميركيين. وبطبيعة الأحوال، فإن هذا التجريح يلقى الاستهجان. غير أن تقويمه يختلف، فبعض مؤيدي أوباما يرون فيه غيضاً من فيض عنصرية كامنة في أوساط خصومه، فيما معظم الخصوم يقللون من أهميته ويدرجونه في خانة التعبير غير اللائق الذي يصاحب هوامش أية حركة شعبية. ويمكن القول إن أوباما منذ تولّى الرئاسة ما زال يتفاعل مع الازدواجية التي يفرضها عليه لون بشرته، إذ ثمة أوساط تنفر منه نتيجة لهذا اللون، وثمة أوساط أخرى، من مختلف الأعراق، تزداد تعاطفاً وتسامحاً معه بسببه. فإشارة كارتر إلى العنصرية في ردود الفعل إزاء أوباما تثير مسألة تبقى حرجة في التداول الثقافي في الولاياتالمتحدة، لكن هذه الإثارة جاءت بلهجة حزبية، من خلال تجاهل الدوافع الموضوعية للمعارضة التي يواجهها أوباما، وهي دوافع جدية عائدة إلى رفض قطاع واسع من الجمهور لمشروعه التغييري. فمخلفات مرحلة الاسترقاق ما زالت بارزة، وانتخاب رئيس أسمر البشرة لا يزيلها، ومنها الصور النابية الجارحة التي ما زالت تهين الأفارقة الأميركيين. لكن بروز بعض هذه الصور بحق الرئيس الأميركي ليس مبرراً لطمس جدل مستحق. ولا بد للخطاب السياسي الأميركي من إيجاد المعادلة المقبولة بين رفض التمييز وتجنب التبرير.