أزمة الكتاب العربي، تأليفاً ونشراً وقراءة، التي كثيراً ما دار الكلام حولها كانت امس محط اهتمام رسمي في افتتاح مؤتمر «حركة التأليف والنشر في العالم العربي» الذي تنظمه مؤسسة الفكر العربي خلال يومين في فندق فينيسيا. هذه الأزمة التي تشغل الأوساط الثقافية في العالم العربي دعا الأمير خالد الفيصل رئيس المؤسسة في كلمته في حفلة الافتتاح الى ايجاد «حلول عملية لها تمكّن امتنا العربية من استعادة وعيها المعرفي والتواصل مع آليات العصر». واستهل حفلة الافتتاح الأمين العام للمؤسسة الكاتب المصري سليمان عبدالمنعم، مرحباً بالحاضرين من سياسيين وكتّاب وباحثين وناشرين وإعلاميين وشاكراً رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان على رعايته المؤتمر وممثله وزير الثقافة اللبنانية تمام سلام. وأشار في كلمته الى ان هذا المؤتمر الذي يعقد في سياق الاحتفال ب «بيروت عاصمة عالمية للكتاب» يمثل «اهتمام مؤسسة الفكر العربي بقضية المعرفة وفي القلب منها الكتاب العربي باعتباره إحدى أدوات التنمية الثقافية. فمن الصعب تصور نجاح حركة التنمية الإنسانية المستدامة في اي من جوانبها الاقتصادية أو التكنولوجية أو الاجتماعية ما لم تظللها ثقافة المعرفة بكل وسائلها وأدواتها وتقنياتها وأولها الكتاب». ثم تحدث الأمير خالد الفيصل، واستهل كلمته مرحباً بالحاضرين وشاكراً رئيس الجمهورية اللبنانية على رعايته المؤتمر ووزير الثقافة اللبناني «على الجهود الكبيرة والعون اللامحدود من اجل قيام المؤتمر وتنظيمه»، وشكر ايضاً النائب بهية الحريري «على دعمها المتواصل لمؤسسة الفكر العربي». وقال: «يسعدني ان أبارك لدولة لبنان إعلان بيروت عاصمة عالمية للكتاب هذا العام، وهو استحقاق اصيل لهذه المنارة الثقافية العربية كواحدة من أنشط المدن في مجالات صناعة الكتاب ونشره وتوزيعه، وتوفير فضاءات واسعة من الحرية في هذا الصدد». وأشار الى ان مؤسسة الفكر العربي حرصت على مشاركة دولة المقر «عرسها الثقافي بتنظيم هذا المؤتمر عن حركة التأليف والنشر بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية تحت شعار «كتاب يصدر... أمة تتقدم» بالنظر الى اهمية العنوان في صناعة المشروع النهضوي العربي المأمول، حيث المعرفة هي الوسيلة المثلى للتطوير والتحديث». وتناول التقرير الذي أصدرته المؤسسة ما ورد فيه عن حالة الحراك الثقافي العربي عام 2008، من أرقام وتحليلات «تؤكد حالة التدني المخيف الذي تشهده حركة التأليف والنشر في الساحة العربية، مما يتطلب النجدة لتدارك الوضع بفض الإشكالية بين المبدع والناشر والموزع، وعلاج ظاهرة العزوف عن القراءة، بعدما اصبحت حصة ما يزيد عن مئة ألف مواطن عربي نسخة واحدة من كل كتاب مطبوع، والتصدي للأمية الهجائية التي فاق معدلها عربياً 27 في المئة، والاهتمام بأدب الطفل وذوي الاحتياجات الخاصة». وثمّن أهمية المؤتمر الذي يعالج قضية مصيرية ويقدم طرحاً موضوعياً ويقيم حواراً شفافاً لكل أبعاد القضية «بغية الوصول الى حلول عملية تمكن امتنا العربية من استعادة وعيها المعرفي، والتواصل مع آليات العصر. ولا شك في ان الثقة معقودة على هذه القامات الفكرية السامقة الممثلة لكل عناصر القضية، وهي قادرة - بعون الله وتوفيقه - على إنجاز المهمة مهما تكن وعورة مسالكها». وتلاه وزير الثقافة اللبناني تمام سلام ممثلاً رئيس الجمهورية وألقى كلمة بدأها قائلاً: «تأتون الى بيروت، والعاصمة تبدأ النصف الثاني من سنة احتفالاتها وبرامجها وأنشطتها، بمناسبة اختيارها العاصمة العالمية للكتاب. بيروت لها في قلب كل منكم مكانة حميمة، ولها مع نضالات كل العرب سجل حافل بالإشراقات، ولها في كالقضية دورُها القومي، لما فيه خيرُ الإنسان العربي ومستقبله. بيروت لها مع كل كاتب وشاعر وأديب قصة... ولها مع كل ناشر حكاية كتاب... ومع كل كتاب سجل نجاح وإخفاق... ومع كل قارئ علاقة عنوانها المعرفة... ولها مع كل تقدم لبنة في بنيان نهضتنا العربية...». وتطرق الى المؤتمر معتبراً إياه «عنواناً كبيراً حول دور الكتاب في تحقيق تقدم الأمة. فالنهضة العربية لا تقوم إلا على أكتاف مواطنين متنورين، ملتزمين مسيرة التطور، ولا تنشط إلا في مناخ التنمية الثقافية الشاملة». وحيا مؤسسة الفكر العربي، وعلى رأسها الأمير خالد الفيصل، «على رفد تقرير التنمية الثقافية في العالم العربي بمؤتمر على هذا المستوى». ورأى ان المؤتمر «يأتي في سياق منطقي وتوقيت مميز. لقد أفسح التقرير في المجال للانتقال من مرحلة الوصف والتشخيص، الى مرحلة النقد والاستشراف والتخطيط بوصفها الركيزة الأساسية لأي نهوض عربي مستقبلي. وإذا كانت التربية من أبرز المجالات التي تحتاج الى تطوير لتحقيق البنية العلمية للمواطن العربي، فإن الإنماء الثقافي والتفاعل الإنساني المتكافئ، يحققان العملية التغييرية الدؤوبة والتقدم المنشود». وتناول الواقع الثقافي العربي في إطار صناعة الكتاب ونشره وقراءته وهو يحتاج في نظره الى معالجة جذرية، تتناول كل المراحل والأطر والأساليب المعتمدة. فالتقدم الذي حققته دور النشر والتوزيع والمكتبات، والمعارض الثقافية العربية على مدى السنوات الماضية، كان له دور بناء، لكنه لا يكفي لإطلاق حركة نهضوية شاملة مرتكزة الى قواعد انسانية ثقافية راسخة. وقال: «لا يمكننا ان نتجاهل الأرقام التي تصفع الواقع الثقافي العربي. في العالم العربي يصدر كتاب لكل 12 ألف مواطن، بينما هناك كتاب لكل 500 شخص في بريطانيا، وكتاب لكل 900 شخص في ألمانيا، أي ان معدل القراءة في العالم العربي لا يتجاوز 4 في المئة من معدل القراءة في بريطانيا... هل نحتاج الى شرح مسهب وملحق تفسيري، امام ارقام الواقع الثقافي والنسبة القرائية في العالم العربي...؟ تراجعت عملية التأليف، ولم تستطع حركة النشر رفع مستوى القرائية الى ما يشكل سلوكاً طبيعياً لدى الإنسان العربي. ولن أدخل في تفاصيل الأرقام والمقارنة، التي تكشف التباين بين ما كنا فيه وما اصبحنا عليه اليوم، لكن مدى الخسارة يدفعنا الى ضرورة أخذ العبر، ودراسة الواقع ووضع الخطط للمعالجة، مع إدراكنا المسبق، أن هذه العملية تحتاج الى فترة زمنية طويلة، لإعادة بناء عادة القراءة بصورة خاصة، والبنية الثقافية العربية بصورة عامة». وركّز على عنوان المؤتمر «كتاب يصدر... مواطن يقرأ... أمة تتقدم» قائلاً: «هكذا بدأنا مسيرة النهضة العربية الأولى، عندما كان القارئ العربي نموذجاً حضارياً يحتذى. ولن تتقدم الأمة ما لم يتحول الكتاب الى وسيلة ينهل منها كل أبنائها، فيتحقق النهوض الشامل. ان مسؤولية التخطيط والتنفيذ ليست احتكاراً لجهد المؤسسات الرسمية في بلداننا العربية، بل هي واجب المجتمع المدني، وهيئاته الناشطة، ومؤسساته التربوية والإعلامية، وجميع العاملين على الإنسان في الوطن. ان هذا الواجب يبدأ من بيوتنا، ومع تربيتنا لأبنائنا. إن التغيير السلوكي، لتحويل الإنسان الى قارئ منتظم، هو من أصعب الأمور، ولكنه ممكن إذا بذل الجميع جهوداً، وإذا تعاون هؤلاء على تحويل القراءة من عقوبة ينفّذها الأبناء على مضض، الى لذة يقبلون عليها بشغف». وبعد حفلة الافتتاح انطلقت أعمال المؤتمر الذي يختتم غداً. ولنا عودة شاملة الى الندوات والقضايا التي أثيرت خلالها.