في نقلة نوعية على مستوى تنظيمات العنف المسلح المرتبطة بمنظمة القاعدة المركزية أو المتعاطفة معها جاء التسجيل المرئي لنائب قائد تنظيم القاعدة في اليمن المطلوب لدى الأجهزة الأمنية في السعودية سعيد الشهري، ليطرح المزيد عن الأسئلة حول مصير هذا التنظيم بعد أن اختار اليمن كنقطة مركزية لتدريب المقاتلين واستقطاب الكوادر التنظيمية، والإعداد للعمليات التي تستهدف المملكة هذا الاختيار الذي كان وما زال متفهماً ومبرراً في ظل الأوضاع الأمنية في اليمن اليوم، إضافة إلى العوامل الجيوسياسية التي رشحت اليمن لأن تكون المكان الأمثل لهذه التنظيمات بعد أن ضاق عليها الخناق في العراق وتقطعت بها السبل في أفغانستان والشريط الحدودي مع باكستان، فضلاً عن النجاحات الأمنية في المملكة التي جعلت كوادر التنظيم تفر إلى الخارج بسبب عجزها عن الصمود أمام الضربات الاستباقية التي أقضّت مضاجع التنظيم وجعلته يغير استراتيجيته ويحاول استهداف أحد أهم القيادات الأمنية السعودية عبر المحاولة الفاشلة لاغتيال مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية الأمير محمد بن نايف، إلا أن رؤية التنظيم في استبدال اليمن بمناطق التوتر السابقة لم يخل من سلبيات بدأت تظهر على السطح، لعل أبرزها معضلة «التمويل» التي تعد الشريان الرئيسي لعمل أي منظمة سرية لكي تبقى ناشطة، فمعدلات الفقر المرتفعة، وعدم وجود استثمارات للتنظيم في اليمن، على عكس أفغانستان، والجهود المكثفة التي تبذلها المملكة للتقليل من التحويلات المالية غير الشرعية، جعل حال التنظيم المالية تعيش تراجعاً كبيراً في الفترة الماضية. من جهة أخرى، فإن كلفة عمليات التنظيم على مستوى الاستقطاب والتنفيذ ترتفع يوماً بعد يوم، بسبب الإجراءات الرقابية وموجة الركود الاقتصادي التي طاولت العالم، وليس ببعيد عن الذاكرة أن أحد أهم نفقات التنظيم الجديدة إغراء وتمويل العناصر الانتحارية، كما جاء في اعترافات سابقة لقاعدي يكنى «أبو سعود علي» في أحد الحوارات التي بثتها القناة السعودية الأولى، إذ أكد - وهو أحد الشباب الذين كانت لهم تجربة سابقة في العمل الإلكتروني «القاعدي»، موضحاً ما رواه والد أحد الشبان السعوديين المعتقلين في العراق عبدالله البليهد، - أن «القاعدة» تستخدم سلاح المال لإغراء الشباب بالعمليات الانتحارية، وتشمل الصفقة الوعد بمصاريف ورواتب شهرية مجزية تستمر حتى بعد مقتل الشاب، وهو ما يفتح باب الأسئلة حول مدى حاجة التنظيم الحالية إلى التجنيد والاستقطاب في الوقت الذي كان في السابق يضع الكثير من العراقيل أمام الشبان الذي يجنّد نفسه حتى يتأكد تماماً من استعداده للتضحية وفق الخطط التي ترسم له. هذا التراجع يمكن التدليل عليه ببراهين كثيرة، لعل أهمها أن حجم العمليات الذي انتقل من استهداف منشآت وأهداف كبرى إلى البحث عن أهداف يمكن تحقيقها عبر عمليات انتحارية فردية لا تكلف أكثر من حياة شخص لديه الاستعداد، ومتفجرات مصنعة يدوياً، إضافة إلى تحول استراتيجية التنظيم من التمويل من العلاقات الخاصة والمتمثلة في بعض التجار المتعاطفين مع التنظيم أو الذين يمكن خداعهم عبر طلب الأموال لقضايا ومصارف شرعية عامة إلى استراتيجية جديدة تتمثل في مخاطبة الجمهور العريض من المسلمين عبر خطاب تعبوي تحريضي وهو ما تكرر في موسم الحج الماضي من خلال رسالة مشابهة بعثها القيادي الثاني في تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، ووجود الحاجة إلى خطابات تحريضية بشعارات دينية خاطئة هو ما يفسر سقوط عدد من المنظرين في غياهب التنظيم ممن وصفوا في قائمة ال 44 بأصحاب الشهادات العلمية العليا وهو ما تحرص «القاعدة» على التحول إليه، بعد أن كان همها البحث عن كوادر تنفيذية انتحارية، لكن الاستراتيجية الجديدة التي تقضي بالتركيز على العمل الإعلامي والفكري في هذه المرحلة الإعدادية الجديدة أو ما أسميه ب «الموجة القاعدية الثالثة» جعلت التنظيم يبحث عن «النوع» في مقابل «الكم»، وهذا ما حدا ببعض المحللين إلى الاستعجال في الحكم بموت التنظيم أو اضمحلاله. يدل الانتقال من طريقة الشبكات التمويلية إلى طلب التبرع برسائل عامة على خطورته للمتبرع والمتبرع له على إفلاس التنظيم مالياً، وهو ما سينعكس على مستقبله في اليمن، وقد يجعله يفكر وفقاً لعدد من المحللين في إعادة تمركزه هناك - وإن كنتُ لا أرجح ذلك بسبب الطبيعة الجاذبة لليمن لمثل هذه التنظيمات - لينتقل إلى الصومال، كون القتال هناك يحظى بقبول لدى شرائح أوسع من المتعاطفين مع «القاعدة» هناك. وهذه الثغرة - أعني اختلاف مستوى تأييد «القاعدة» بحسب المنطقة التي تعمل فيها - هي أحد أهم المرتكزات التي يعيش عليها التنظيم، ويستمد منها قوته، بل شرعيته لدى أولئك الذين يتعاملون بازدواجية في النظر إلى التنظيم. وينبع الفشل في إيجاد مصادر تمويل غير تقليدية كمشاريع مستقلة وضخمة ذات عوائد مستمرة، والاعتماد على التبرعات الفردية أو التحويلات الصغيرة، من اليقظة التي يعيشها العالم بعد تحول الإرهاب إلى ظاهرة عالمية، إذ أصبح نقل الأموال أكثر خطورةً وأشد صعوبة، ولا سيما أن هناك قوائم متجددة بالكيانات والأفراد التي تقدم مساعدة مالية للتنظيمات الإرهابية للتذكير فقط في السنة التي تلت أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) تم في الولاياتالمتحدة تجميد ما يزيد على 150 مليون دولار مرتبطة بأعمال مشبوهة ذات صلة بالإرهاب. إن التحدي في الحرب الطويلة مع تنظيم القاعدة وفروعه يكمن في قطع «عصب الحياة» - كما يصف الشهري في رسالته الأخير أهمية المال بالنسبة للتنظيم - وهذا بدوره يؤكد ضرورة تعزيز الإجراءات الصارمة للتحويلات المالية التي قد تستغل شعارات خيرية غير معلومة الوجهة كما دعم البلدان التي تعشعش فيها ذيول «القاعدة» الفارة من مناطق التوتر، عبر تحفيزها لتطوير أنظمتها المصرفية والمالية والرقابية، من شأنه أن يزيد من تضييق الخناق على فرص انتعاش رئة التنظيم الملوثة بالدماء. * باحث في شؤون الجماعات الإرهابية.