في باريس، أواخر سبعينات القرن الماضي، كنت أنتظر أنسي أن ينتهي من عمله الرتيب في «النهار العربي والدولي»، لكي ننزل نهر الليل المتدفق بشتى أنواع البشر. نخرج، هو بمعطفه الأسود وقبعته الروسية الشكل، وأنا بملابسي العادية... كنت ألاحظ أن ثمّة علاقة بين أنسي والليل... وكأنَّ الليلَ ميلادُه، أعماقُه، مُحاورُه بصيغة الشخص الثالث لطرد نعاس ميتافيزيقيّ. ف «الناس تنام في الليل وتعمل في النهار»، بينما هو ينام في النهار ويعيش في الليل. ولِمَ لا؟ «أليس النهارُ أيضاً ليلاً مصبوغاً بدهان الشّمس»! لاحظت، في ما بعد، أن كلمة الليل تهمس كثيراً في بعض أشعار أنسي الحاج وخصوصاً في «خواتمه». لكنه ليس ذاك الليل الذي يتحيّن فيه الشعراء فرصة اللقاء بشياطينهم، وإنّما الليل بكل ثقله، وحجمه وبما يحمله من أسئلة وحالات من الأرق الشعريّ؛ بظلمته التي هي تعبير عن الأعماق بصور مدلولاتها. إنه ليلٌ آخرُ لا يسمح بسباق الانتهاء؛ إنه الجوهر، مركز الشعر، حيث ما إن تُغلق عينيك، حتى ترى. ومن شأنه أن يُفضي الى فجرٍ جديد؛ إلى حيث كلُّ شيءٍ يتوقّف، يتحرّك، يسبح، يُعيد انتاجَ نفسه. إنّه علامة صراع بين الأب والابن: «كان أبي نهاراً وكنتُ ليلاً»، فتتبدل الأدوار: النوم أرق، الأرق نوم، والليل يتجاوزهما في فترة تركيبيّة. ليلٌ يترامى رمزَ بحثٍ عن كتابةٍ ذات نزعة ملائكيّة في نظرتها، تعيدنا إلى فجر العالم «يوم كانت الأرض ملعباً للنفْس المُرهَفَة»، وها نحن نستيقظ في ناصفة ليل التساؤلات التي ننام معاً. إنّه الليل بامتياز؛ حلبة الصراع بين الكلمات والأفكار، تكون فيه نهايةُ الحلم موتَ الأنا، وبدايةُ سيادةِ الحلم ولادتَها الجديدة. ومن هنا، إنّ فعلَ التدوين، في كتابات أنسي الحاج، ليس عن الحلم وإنما عن التشاكل بين الكتابة والحلم؛ كتابةُ الليل علّ النقطة التي ينضم فيها الحلم بعالمِ اللاوعي الواسع؛ نقطة «التدامج بين الليل والنهار»، تنبجس من الرأس، ويغفو العالم في سريره الورقي، التنظير المعتاد. في «آخر الليل» حيث «لا أحدَ لأحد»، كان لِلَيل أنسي الحاج ملائكته؛ إنّهم الأبرياء المنقّبون في تربة الظلمات عن بهجة الضوء؛ الاندماج بزحام باتت أحلامه محطة أخيرة في أمداء المكتوب. ملائكة بلا سماء، مصنفون بمختلف النعوت المبهمة: شحّاذون، عاهرات، ضائعون، حالمون، باختصار: محبّو كلِّ ما هو حيّ. كنّا نتساود معهم سوادَ الليل إلى أن «تتوهّج الحياة...». فيتنفس الصُّبحُ، بين أضواء المصابيح والشّمس... وينتهي فصلٌ من الدرس.