في شتاء 1982، كانت عائلة فراس الجوابرة قدمت الكثير من القرابين إلى حكم «البعث» في سورية، مثل جده فواز الجوابرة الذي أذيبت أصابع قدميه بمادة الأسيد... لكن عشق فراس للجنوب السوري حيث رائحة التراب ولون القمح ودبكات الزيتون ألهمته الحياة داخل الفن. في 2009 زار الفنان السوري الشاب «متحف أوغوست رودان» في باريس، وظن أن عتبة الفن العليا هي تمثال «المفكّر»، لكن «هذه الأسطورة بدأت بالتحطم في 18 آذار (مارس) 2011، عندما بدأ السوري ينفض غبار التعب عن تراثه الحقيقي ويجعله أكثر بريقاً، صانعاً الحلقة المفقودة بيننا وبين الماضي»، وفق تعبير الجوابرة. «وحين فجر أهل الصنمين مفاجأة جديدة في بدايات الثورة بلافتة ضخمة جداً استمدّت ألوانها من التراث مع خلفية لونية قوية جداً كالبرتقالي، لاقى الأمر ترحيباً واسعاً من الثورة، وتكرر الأمر آلاف المرات في درعا وكل سورية، من دون نسيان لافتات كفر نبل وعامودا». البدايات... و «لوحة الشهيد» انتقل فراس من مدينته درعا إلى دمشق عام 2000 لدراسة الهندسة المعلوماتية، فوفّرت له العاصمة «الأم الرائعة»، كما يصفها، فرص الاحتكاك بالفنانين وأعمالهم. وقرر بعدها أن يخطو أولى خطواته في طريق الفن. «أقمتُ معرضي الأول «المهاجر 11» إثر تخرجي في الكلية وحصولي على شهادة الماجستير في إدارة النظم». ويضيف: «كان التغيير الأكبر في حياتي، حين قررت التوجه نحو الفن والمعرفة مباشرة، ودرس العلاقة بينهما، لأحصل على شهادة الدكتوراه في إدارة المعرفة، فضلاً عن مجموعة معارض (منها «أجينور 1» و «أجينور 2»)، وأعمال خيرية». ل «لوحة الشهيد» موقع خاص في قلب الجوابرة، وفي مسيرته الفنية، وذلك بعدما تحولت إلى أحد طوابع الثورة السورية، وهي أكبر لوحة في العالم توثق أسماء الشهداء. لكن ممَّ تتألف هذه اللوحة؟ كم استغرق العمل فيها؟ كيف بدأت فكرة رسمها؟ وما ظروف رسمها؟ ترك فراس العمل الأكاديمي في جامعته، لينطلق في تظاهرات جابت أرجاء حوران. وبعد اشتداد القبضة الأمنية، غادر سورية متفرغاً للعمل الفني لدعم الثورة، ما أثمر أول معرض في اليونان حمل اسم «معرض حمزة الخطيب»، إضافة إلى معرض في ألمانيا في عنوان «معرض أطفال الحرية». ولكن، ما علاقة هذين المعرضين بلوحة الشهيد؟ يجيب الجوابرة: «في ظروف قاسية جداً، وبعد هروبي من سورية إلى تشيخيا «المناوئة للثورة»، ومنعي من مغادرتها كوني طالب لجوء إجباري فيها، بقيت أكثر من سنة ونصف السنة هناك من دون أوراق، ما أعطاني الوقت لإلقاء بعض المحاضرات الأكاديمية عن الفن والثورة السورية وتنظيم معارض، ومنها «شبابيك الغريب» و «إنسان ما»، ثم التحدي الأكبر الذي تمثل في «لوحة الشهيد». يعبر الجوابرة عن سعادته وألمه من الظروف التي رافقت رسم «لوحة الشهيد»، وهي أكبر لوحة في العالم لدعم الثورة السورية، إذ «تتكوّن من 36 لوحة، كل منها تحكي قصة شهيد أو مدينة ثائرة. وعند تجميع الأعمال بعضها مع بعض تتكون لوحة الشهيد معن العودات، رمز الكفاح ضد الاستبداد والطغيان». توثق اللوحة أسماء 15 ألف شهيد، واستغرق إنجازها سبعة أشهر من العمل المتواصل، ودعمت المشروع مجموعة من الشباب السوريين في تشيخيا، تحت اسم «مبادرة من أجل سورية». ثم عرضتها في جمهورية تشيخيا «في الذكرى السنوية الثانية لانطلاقة ثورة الحرية والكرامة»، مع العلم أن لوحة الشهيد «جاهزة للبيع لأي جهة تضمن إيصال كامل ثمنها لإغاثة الأطفال السوريين، من دون المرور بي»، يقول الجوابرة. أثر التمرّد كل ما يريده الجوابرة هو أن يعرض لوحاته يوماً ما في عامودا والقامشلي وكرم الزيتون والخالدية والسفيرة والبوكمال وسقبا والنبك وحماة وداعل... يقول: «أرغب في الاستمرار في دعم الثورة السورية العظيمة بكل أعمالي، قضية القرن الحادي والعشرين، قضية 7000 سنة من الحضارة والعراقة، قضية الشعب السوري العظيم المظلوم». وعلى رغم التزامه التدريس الأكاديمي 5 سنوات، فإن «ذئبيتي وتمردي غيّرا برنامج حياتي جذرياً منذ خروجي من سورية، فتحولتُ من مدرِّس جامعي إلى عامل بناء تارةً، ومدرب تزلج للأطفال تارة أخرى. ولكنني لا أزال أؤمن بأن أي عمل يضمن كرامة الإنسان أهم من أن يبقى بلا عمل. فالاستقلال المادي يساعد على الاستقلال في القرارات». وأخيراً خطا فراس خطوته المهمة في انتقاله إلى المملكة المتحدة، كون «فرص العمل هنا أفضل، والحركة الفنية أكثر حيوية». وفي الأشهر المقبلة سيطلق مشروعاً فنياً في عنوان: «أنا أثق بك». وهو مشروع فكرته بسيطة وغريبة في آن واحد: «عرض 20 عملاً لي في مقابل الثقة، ومَن يرغب في اقتناء عمل، عليه أن يقوّمه مع نفسه من دون أن يطلع أحداً على التقويم، ثم يرسل المبلغ الذي قوّمه على أساسه إلى إحدى المنظمات المهتمة بشؤون إغاثة الأطفال السوريين، يختارها من دون الرجوع إليّ». ويخطط فراس لفيلم تجريدي قصير، مدته 4 دقائق، ينتظر الموازنة المناسبة... ليُبصر النور.