لم تكن تركيا شديدة الاهتمام بما جرى في تونس أو مصر أو اليمن، وكانت متحفظة كثيراً تجاه ما كان يجري في ليبيا، وأعلنت أنها لا توافق على تدخل حلف شمال الأطلسي (وهي العضو المهم فيه) فيها، تنفيذاً لقرار مجلس الأمن بهذا الشأن، الذي تحفظت عليه أيضاً. أما بالنسبة لسورية فقد اختلف موقف الحكومة التركية كثيراً، فمنذ اللحظة الأولى لخروج السوريين إلى الشوارع مطالبين بالحرية والكرامة والديموقراطية، كان الموقف التركي داعماً لهم ومؤيداً لمطالبهم، على خلاف ما هو متوقع. من المعلوم أن الرئيس السوري وبعد أن استقر الحكم له، بدأ ينهج تجاه تركيا نهجاً مخالفاً لنهج والده، وفتح لها باباً عريضاً وعالياً تجاه البلدان العربية عبر سورية، ليس فقط في المجال الثقافي، بل في المجالين الاقتصادي والسياسي. لقد قيل في حينه أن الأسد نجح بجذب تركيا لتقف إلى جانب الحقوق العربية وخصوصاً إلى جانب القضية الفلسطينية. وقيل أيضاً أنه نجح في موازنة علاقاته مع إيران وحزب الله، بتطوير علاقات شاملة مع تركيا. إضافة إلى ذلك تطورت العلاقات الاقتصادية بين البلدين كثيراً حتى وصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى نحو ثلاثة بلايين دولار، عدا فتح الحدود بالاتجاهين أمام مواطني البلدين. ولا تقل أهمية عن ذلك مساهمة سورية في التعريف بالثقافة التركية من خلال دبلجة مسلسلاتها، ومن خلال تنشيط حركة السياحة بين البلدين. وفي المجال السياسي صارت تركيا وسيطاً بين سورية وإسرائيل، ورعت مفاوضات غير مباشرة بينهما. وقيل في حينه أيضاً أن العلاقات الشخصية بين الرئيس بشار الأسد والقادة الأتراك، خصوصاً بينه وبين رجب طيب أردوغان صارت من القوة والاستقرار بحيث توصف بأنها علاقات إستراتيجية. السؤال هو: لماذا ضحت تركيا بكل هذه المكاسب دفعة واحدة، لقاء وقوفها إلى «جانب» الشعب السوري الثائر على نظامه؟ بطبيعة الحال من السذاجة القول جواباً عن السؤال السابق أن تركيا الديموقراطية تنطلق في دعمها لنضال الشعب السوري من مبادئها في نصرة قضايا الشعوب العادلة، ففي العلاقات الدولية تظل المصالح هي الأساس الذي تبنى عليه. ومن السذاجة أيضاً القول جواباً على السؤال ذاته، إن تركيا تبحث عن فضاء حيوي ديموقراطي لمصالحها يسمح لها بالضغط على دول الاتحاد الأوروبي من أجل قبول عضويتها فيه، أو بديلاً عنه. ومع أنه قد يكون في القولين السابقين بعض الصحة، غير أن الجواب الأقرب للصحة ينبغي البحث عنه في مجال آخر هو مجال تأثير ما يجري في سورية على الداخل التركي، واحتمال انتقال الصراعات المحتملة في سورية إليها نظراً للعلاقات السكانية المتداخلة والمعقدة بين البلدين. نجحت سياسة حزب العدالة والتنمية في تحويل تركيا إلى قوة اقتصادية وسياسية إقليمية يحسب لها حساب بعد أن كانت تابعة في كل شيء تقريباً للسياسات الأميركية والأوروبية. لم تعد تركيا تقبل أن تعامل كخلفية للسياسات الأطلسية بل كجزء من الواجهة لها دورها الذي تؤديه. وما كان بإمكان تركيا أن تنجح في كل ذلك لولا تغيير وجهتها شرقاً باتجاه دول الجوار الإقليمي وفي مقدمها سورية. غير أن استمرار وتعزيز هذه النجاحات يتطلب قبل كل شيء استقرار دول الجوار وخصوصاً تلك التي تتشارك معها المشكلات الناجمة عن التداخل السكاني. من المعلوم أن تركيا تعاني من مشكلة مزمنة مع الأكراد الأتراك الذين يخوضون ضدها حرب عصابات منطلقين من الأراضي العراقية والسورية. في عهد حافظ الأسد كانت سورية قاعدة رئيسية لحزب العمال الكردستاني وكان زعيم هذا الحزب يقيم في سورية برعاية شبه رسمية. غير أن تركيا ومن خلال ممارسة ضغوط عالية على النظام السوري إلى حد التهديد باستخدام القوة العسكرية ضده نجحت في إرغامه على إخراج زعيم الحزب عبد الله أوجلان من سورية، الأمر الذي أدى لاحقاً إلى اعتقاله ومحاكمته وسجنه في تركيا. إضافة إلى ذلك عادت الحدود السورية لتغلق في وجه مقاتلي هذا الحزب في عهد بشار الأسد، وشنت السلطات السورية حملة اعتقالات واسعة على كوادره ومقاتليه، وسلمت البعض منهم إلى تركيا. راهنت تركيا على إمكانية إسقاط النظام السوري بسرعة، بعد أن انتفض الشعب السوري بصورة لم تكن متوقعة. غير أن مجريات الأحداث خلال ما يقارب الثلاث سنوات من عمر الأزمة السورية أدت إلى نتائج كانت تخشاها تركيا. من هذه النتائج وأخطرها على تركيا أن سيطر حزب الاتحاد الديموقراطي، وغيره من الأحزاب الكردية، على مناطق واسعة من شمال، وشمال شرقي سورية تسكنها غالبية كردية، وشرعوا في ترتيبات لإدارتها ذاتياً، الأمر الذي يشكل قلقاً حقيقياً للسلطات التركية خصوصاً لجهة تأثيره على الأكراد الأتراك. وأكثر من ذلك فهي تخشى أن يتحول شمال سورية، من جديد، إلى قاعدة ومنطلق لمقاتلي حزب العمال الكردستاني في حال فشل الاتفاق معه لتسوية القضية الكردية في تركيا سلمياً، كما تشير المعطيات على الأرض. من جهة أخرى بدأ العلويون الأتراك، الذين يشكلون كتلة سكانية كبيرة، يهددون بأنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي في حال تعرضت الأقلية العلوية في سورية لصراع طائفي. إذاً ما كانت تخشاه تركيا من انعكاس ما يجري في سورية على الداخل التركي والذي كان السبب الحقيقي وراء المواقف التركية الحادة نسبياً ضد النظام السوري قد حصل. لذلك بدأت الحكومة التركية في الآونة الأخيرة تجري مراجعة جدية لسياساتها تجاه سورية، فحسنت من علاقاتها مع إيران الحليف القوي للنظام السوري، وأعلنت تأييدها لمؤتمر جنيف، وشرعت في الحد من دخول المقاتلين إلى سورية، بل شرعت في بناء سور على امتداد الحدود السورية التركية. كل هذه الإجراءات من جانب تركيا تشي بأن السياسة التركية تجاه سورية سوف تشهد انعطافة جديدة. * كاتب سوري