يتذكر اللبنانيون جيداً ذلك اليوم الذي نقلت فيه شاشات التلفزة «حدث» افتتاح أول فرع، لأحد أهم مطاعم الوجبات السريعة، في منطقة الدورة (شرق بيروت). «الحدث» عمره أكثر من تسع سنوات، المئات اصطفوا في طوابير طويلة، وانتظروا ساعات ليحظوا «بامتياز» إدخال قطعة همبرغر صغيرة مصنوعة «على الطريقة الأميركية» الأصلية، إلى معدتهم «اللبنانية» الضعيفة أمام إغراءات مطابخ «ما وراء البحار». بعد ذلك التاريخ كرّت سبحة مطاعم الوجبات السريعة التي تعتمد نظام ال «Drive Thru»، وفرّخت كالفطر في الأزقة والشوارع، ودائماً كانت تجد من يستهلك أطباقها التي «تسرّع» الطريق نحو البدانة والمشكلات الصحية. لم تفقد «الوجبة السريعة» مكانتها في المعدة اللبنانية، وحتى أولئك الذين يتبعون حمية قاسية، تجد منهم من يقف لدقائق أمام صورة «تلمّع» دجاجاً مقلياً وتلة صغيرة من البطاطا المقلية... تضعف الإرادة، يفكر مرتين، ثم يتخذ القرار بتناول الوجبة «استثنائياً ولمرة واحدة»... مع كوب من المشروبات الغازية ال «دايت»، تخفيفاً للشعور بالذنب. «زعامة» الوجبات السريعة لم تُمس، لكن في المقابل ظهر من يتحدث عن «فلسفة غذائية» جديدة نمت في منازل اللبنانيين الناقمين على الطعام غير الصحي، المرادف برأيهم ل «بطاقة» الدخول السريع إلى... القبر، ثم تلقفتها مؤسسات متخصصة في توفير الأكل الصحي إلى زبائنها الراغبين في الانقلاب على إرادتهم الضعيفة، واعتماد نظام مدروس يبعد منهم شبح الموت المفاجئ. وتبدو «السياسة الغذائية» داخل كل منزل في لبنان على شاكلة سياسة البلد نفسه. تيارات تتصارع بين غرف البيت الواحد. أب يفضّل ترويقة الجبنة واللبنة والبيض البلدي ووجبة «يخنة» عند الظهر، وأولاد «يستلذون» بصبحية كرواسان وكورن فلاكس وتشكيلة من المقالي عند الغداء، وأم تجد نفسها بين «شقوفين»... تلبية الرغبات «البلدية» لزوجها، وعدم حرمان أطفالها من لذة «الوجبة العصرية»، وإن كانت تدرك مضارها عليهم. وهي بذلك «تساير» الطرفين، وبالتالي تأكل أكثر، لأن معدتها جمعت بين «خصمين» غذائيين. وأمام الهجمات المستمرة لأطباق الوجبات السريعة وللأطعمة المشبّعة بالدهون والزيوت، المستوردة منها والمحلية، تنمو بإطراد «حركات تمرد» على الواقع الغذائي غير الصحي، تلتقي جميعها عند استكمال تكوين الفلسفة الغذائية الجديدة. في منازل بعض اللبنانيين «المتطرفين» تمّ الاستغناء كلياً عن كلّ ما يمت بصلة إلى ما هو غير صحي، وجرت الاستعانة بالمأكولات العضوية التي لا يدخل فيها أي مركّب كيماوي، وهي مرتفعة الثمن وتتطلب موازنة خاصة لا يقدر على تأمينها سوى ميسوري الحال. وفي منازل أخرى، أدخِلت إلى الرفوف أصناف ال «دايت» و «لايت»، وشطبت المقالي من المعادلة الغذائية، وعادت عقارب الساعة إلى طعام جدودنا، ولا تحصل الاستثناءات إلا عند إقامة المآدب للضيوف. لكن حتى في هذه الحال، فإن الاستثناء يطبّق على الضيف وليس على أهل البيت. في المكاتب والشركات وحتى في الكثير من المنازل، تزيد اشتراكات التعاقد مع مؤسسات متخصصة بتأمين وجبات الأكل الصحي إلى الزبائن، وكل مشترك له وجبة خاصة تختلف باختلاف وضعه الصحي، مع العلم أن الكثير من هؤلاء لا يعانون من مشكلات صحية تذكر ولا يتبعون حمية غذائية، لكنهم يفضّلون الابتعاد من اغراءات العين والذوق، ليكتفوا بما يحضّر لهم من كميات محدودة من الأكل الصحي، تقيهم من المفاجآت غير السارة. تتعدد تسميات الأكل الصحي والهدف واحد. وتجد المأكولات العضوية Organic Food مساحة من التجاوب من جانب شريحة من اللبنانيين، تجد فيها عودة طبيعية إلى «عهد الأجداد». محال ومطاعم المأكولات العضوية لا تزال محدودة جداً في لبنان، وهي باهظة الثمن كونها تنمو من دون مواد كيماوية، كما أن قلة من المزارعين تعتمد تقنيات حماية بيولوجية من الآفات لتسميد الأتربة ومعالجة الحشرات عوض الأسمدة الكيماوية. داخل محل صغير في الأشرفية تعرض منتجات عضوية من الفاكهة والخضر. زبائن المحل يعدّون على أصابع اليد، بعضهم مثابر على الشراء ولا يلتفت إلى الفاتورة «لأن الصحة أهم»، والبعض الآخر لم يتمكن، كما يقول صاحب المحل، من الاستمرار في الاتكال على الغذاء العضوي واستعاض عنه ب «الريجيم» العادي... الأقل كلفة!