لقاء الباحِثة المصرية داليا عاصم مع العالِم الأميركي روبرت باتنام، أحد أبرز مُنظّري مفهوم «رأس المال الاجتماعي» Social Capital، تزامن مع ملاحظتها تحوّل كثير من الصداقات الافتراضية على موقع «فايسبوك»، علاقات صداقة فعليّة. وشكّل الأمر مدخلاً لإدراك عاصم مدى أهمية شبكات التواصل الاجتماعي الرقمي في تعضيد قيم التعاون والتبادل والدعم والمساندة وتنمية رأس المال الاجتماعي لدى الناس. حدث ذلك في وقت كانت معظم البحوث والدراسات العربية منصبةً على الآثار السلبيّة لشبكة الإنترنت، وعلى العلاقات الاجتماعية الفعلية. وتبرز هذه المعطيات أهمية أطروحة الماجستير التي أعدّتها عاصم تحت عنوان «ثقافة الفضاء الافتراضي ورأس المال الاجتماعي: دراسة استطلاعية لآليات التفاعل الاجتماعي على موقع فايسبوك». ونوقشت هذه الأطروحة الأكاديمية أخيراً في قسم الاجتماع في كلية الآداب في جامعة الإسكندرية. ووفق تقويم لجنة المناقشة، تميّزت هذه الأطروحة باعتمادها طرقاً وأساليب بحثيّة تُطبق للمرة الأولى، ما يضعها في مصاف الدراسات العالميّة في علم الاجتماع، خصوصاً أنها تضمّنت مفاهيم جديدة تُلائم التحوّلات التكنولوجية والاجتماعية الجارية. تفرّد الظاهرة الإلكترونيّة تقدّم الأطروحة إطاراً نظرياً لدراسة ثقافة الفضاء الافتراضي في مصر، إذ تبلور مفهوم «ثقافة الفضاء الافتراضي» وتكشف عن مفردات تلك الثقافة وأخطارها وإيجابياتها وتأثيراتها في رأس المال الاجتماعي في صوره كافة. وفي بحثها، تتطرّق الباحثة عاصِم إلى ظاهرة شبكات التواصل الاجتماعي وتأثيرها في مناحي الحياة المختلفة، مع تركيز على «فايسبوك» باعتباره الموقع الذي يضم سُبع سكان الأرض. وترصد أيضاً تأثير الموقع في مفهوم الثقافة في معناها الأنثروبولوجي، كما تتطرّق لآثار «فايسبوك» في الإبداع والإنتاج الثقافي، والإعلام التقليدي، وتشكيل الوعي السياسي، وأساليب التنشئة الاجتماعية والعادات والتقاليد، والقيم والمعايير التي تتحكم بسلوكات المجتمع. كما تضع الدراسة طريقة عملية مبتكرة لقياس رأس المال الاجتماعي على شبكات التواصل الاجتماعي، عبر تحليل آليات التفاعل بين المستخدمين كرصدها لما يحدث في الفضاء الاجتماعي الفعلي عقب عمليات المشاركة والدعوة والإعجاب والصدّ والخلق Post-share-invite-Block-Like-Create على «فايسبوك». تنتمي هذه الدراسة إلى الدراسات الاستطلاعية. وتشمل العينة التي تقصّتها الدراسة عبر تتبع سجّل بروتوكول الإنترنت لأفرادها، جنسيات من دول عربية وأجنبية كالسعودية وألمانيا والسويد وتركيا والصين وبريطانيا والإمارات العربية المتحدة، والولايات المتحدة، إضافة إلى مصر. وفي هذه العيّنة، بلغت نسبة الذكور 42.3 في المئة والإناث 57.7 في المئة. وفي الفئات العمرية للعيّنة، كانت الفئة الأكثر تمثيلاً هي الشريحة التي تتراوح أعمارها بين 30 عاماً و40 عاماً وهي سجّلت نسبة 44.9 في المئة. وكان من اللافت وجود تمثيل لجيل «المُخضرمين» ممن تتراوح أعمارهم بين 40 عاماً و50 عاماً (7.9 في المئة)، مع وجود ملموس لكبار السن ممن تراوح أعمارهم بين 50 إلى 60 عاماً (7.1 في المئة). ويمكن اعتبار أن من النتائج الأكثر إبهاراً وجود مستخدمين يمثلون الفئة العمرية لأكثر من 60 سنة بنسبة 5.5 في المئة، وهي شريحة لم تكن مُمثّلة في دراسات سابقة، ما يدل على اتساع مروحة الآثار الاجتماعيّة لثقافة الفضاء الافتراضي، وكذلك تأثيرات «فايسبوك» في الحياة الاجتماعية لكبار السن، وتمكينهم من الثقافة الرقميّة أيضاً. وفي سجل النتائج البارزة، يأتي معطى تفوّق الدخول إلى «فايسبوك» عبر الكومبيوتر المحمول «لاب توب» (72.1 في المئة) وهي الأعلى بين أساليب الدخول إلى ذلك الموقع. ويجيء الخليوي الذكي ثانيّاً في أدوات دخول الجمهور إلى «فايسبوك» (55.8 في المئة. وبفارق كبير، يأتي كومبيوتر المكتب ثالثاً (4 في المئة). وتورد هذه الدراسة أن موقع «فايسبوك» ساهم في تحسين رأس المال الاجتماعي بأنواعه لدى جمهور الفضاء الافتراضي، كما تلاحظ أن ارتفاع عدد الأصدقاء في صفحة فرد ما على «فايسبوك»، يدلّ على جدارة الشخص بالثقة، وأنه شخص محبوب ومتعاون. وتبيّن الدراسة أن ما يزيد على نصف العيّنة المشمولة بها، يبدون حرصاً على وجود صفحات شخصية على «فايسبوك» بهدف الارتقاء بدرجة التواصل مع الأصدقاء، وكذلك لتكوين علاقات جديدة. وترصد أن 7 من كل 10 يرغبون في تعميق علاقاتهم الاجتماعية والتشبيك مع مزيد ممن لهم صفحات على «فايسبوك». وتظهر الدراسة أيضاً أن 90.2 في المئة أفراد عيّنتها ساعدهم «فايسبوك» على التواصل مع زملاء الدراسة. كما تلاحِظ أن 53.5 في المئة منهم يستخدمون «فايسبوك» للتعبير عن آرائهم السياسيّة. جسر إلى الحياة فعليّاً ثمة انطباع بأن نتائج الدراسة تظهر انتقال رأس المال الاجتماعي الافتراضي إلى الواقع الفعلي. إذ يقرّ 52.7 في المئة من أفراد العيّنة بأن صداقاتهم الافتراضية تنتقل، جزئياً أو كليّاً، إلى الواقع فعليّاً عبر مقابلات تجري وجهاً لوجه. كما لم يجد 44.9 في المئة فارقاً بين الصداقات الافتراضية والتي تحدث وجهاً لوجه. ويصرّ 25.2 في المئة على أن العلاقات الافتراضية أفضل من نظيرتها في الحياة الفعليّة! وتبيّن الدارسة أيضاً أن الغرض الرئيسي من الانضمام لموقع «فايسبوك» هو التواصل بحد ذاته. وتلاحظ أمراً مثيراً مفاده بأن 69.3 في المئة يتواصلون مع أقاربهم من الدرجة الأولى وأفراد أسرهم، ما يؤكد أن الفضاء الافتراضي يدعم رأس المال الاجتماعي من النوع العاصب أو الرابط. وتوضِح أيضاً أن 68.2 في المئة يشعرون بأن «فايسبوك» أصبح جزءاً من روتين حياتهم اليومية، ما يعني أنه بات يشكّل أسلوباً لحياتهم وسلوكاتهم وممارساتهم، ما يبرهن أنه ثقافة في حد ذاتها. كما تؤكّد نتائج الدراسة أن 82 في المئة يعتقدون بأن «فايسبوك» يساهم في الإنتاج الثقافي كالقصة والشعر والكاريكاتير والأفلام والموسيقى. كذلك تشدّد على أن 55.1 في المئة يرون أن «فايسبوك» أصبح بديلاً عن وسائل الإعلام التقليدية. وتشير الدراسة أيضاً إلى أن 93.9 في المئة من أفراد عيّنتها اعتبر أن «فايسبوك» ساهم في تكوين توجّهاتهم السياسية في فترة «الربيع العربي». وتظهر أن القضايا الحقوقية تحظى بأعلى معدل في التطوّع للدفاع عنها بين مستخدمي «فايسبوك»، إذ بلغت نسبتها 74.5 في المئة، وتلتها قضايا الثقافة (18.4 في المئة)، والدين (7.1 في المئة). استنتاجات معرفيّة وفق هذه الدراسة، تتغلغل ثقافة الفضاء الافتراضي في عملية التنشئة الاجتماعية. وتبيّن أن 82.6 في المئة من أعضاء «فايسبوك» أنشأوا لأبنائهم حسابات عليه، فنسج هؤلاء صداقات افتراضية. وتوضح أن 56.6 في المئة من مستخدمي «فايسبوك» يشعرون بأن منظومة قيمهم تأثّرت باستخدامهم له. وتكشفت النتائج أيضاً عن أن 57 في المئة يشعرون بالعزلة إذا أُغلِق هذا الموقع، وأن 50.8 في المئة يفتقدون أصدقاءهم وزملاءهم في تلك الحال، فيما أعلن 18 في المئة أنهم لا يتصوّرون الحياة من دون «فايسبوك»! وتخلص الدراسة إلى توصيات منها إجراء بحوث للوقوف على مستقبل ثقافة الفضاء الافتراضي وتطورها ومآلها، موصيّة بأن ينخرط في هذه البحوث اختصاصيّون في علم الاجتماع بالتعاون مع علماء النفس والأنثروبولوجيا والحوسبة اللغويّة الإلكترونية، والاقتصاد والعلوم السياسية، وتكنولوجيا المعلومات، والشبكات الاجتماعية. كما توصي بأن ترصد هذه البحوث المنتظرة تأثيرات ثقافة الافتراضي في المجالات التي تدرسها تلك العلوم، للوصول إلى صوغ إشكاليات تلك الثقافة ومنافعها، مع تأطير نظري متكامل يمكن تطبيقه والاستفادة منه في شكل ملموس. وكذلك تخلص الدراسة إلى المناداة بالتوسع في دراسة طُرُق تعاطي مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي مع المركبات الثقافية. وتدعو إلى إنشاء مراكز بحوث عربية متخصصة لدراسة تأثيرات الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي في ثقافة الفضاء الافتراضي. وتحضّ على ضرورة دراسة أثر الثقافة الافتراضيّة على الموروثات الشعبية والثقافة الشفاهية وثقافة الحياة اليومية. وتدعو الى التفكير في مسألة الصعود المتواصل لتأثيرات الفضاء الافتراضي على المجريات المتغيّرة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط في الحقول الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وتوصي أيضاً بتأسيس هيئات بحثية على النطاق الإقليمي تكون مهمتها متابعة المتغيّرات التكنولوجية المتسارعة التي تشكل معضلة أمام استشراف مستقبل الثقافات.